مر أسبوعين أو يزيد على ما كان من أمر “ردينة” مع السلطان ، فأتت عليه ريح النسيان و أخذته بعيدا عن ذاكرتها الصغيرة ، خاصة و أن السلطانة قد أمعنت منذ ذاك اليوم في تدليلها. فآستطابت حلاوة العيش في القصر مجددا تحت جناح السلطانة و في ذمتها و في كنف رعايتها و حمايتها.
حتى أن العجوز كانت تلقي باللائمة على إبنها و صنيعه المشين حسب قولها و توعز سلوكه ذاك إلى صغر سنه و آغتراره بالملك و السلطان ، غير نافية أنها تتحمل جزءا من المسؤولية فيما حدث خاصة و أنها هي من دلله منذ الصغر ، فلم تكن تعصي له أمرا و لا ترد له طلبا.
أما الأم “أم السعد” فقد كان تلقي باللائمة على آبنتها و تعتبرها مجنونة إذ تهرب من السلطان .
_هل هناك عاقلة تهرب من السلطان المعظم حاكم نصف الارض بمائها و أرضها و بشرها و سوائمها و بهائمها . ما الذي دهاك يا آبنة الجوعى ، هل تريدين العودة لحياة البؤس و الفاقة ، بل و من يضمن لك مجرد العودة ؟ من يضمن لك أن السلطان لن يقتلك و يقتلني معك؟
_لكني لست جارية و لن أكون جارية لأحد!
_و ما بها حياة الجواري . أليست افضل من حياة الشضف في مضارب “السقائين” ؟ و هل تضمنين حتى أنك ستعودين إليها!
_لا بد أن هناك حل و سأجده حتما.
_إفعلي ما بدى لك . لكن لا تنسي أن حياتي و حياتي في الميزان. لا تتهوري.
لم تجد “ردينة” من حل سوى أن تلتجئ للسلطانة الأم علها تأخذ منها عهدا بأن تحميها ما بقيت في القصر . فهي هنا بسببها قبل كل شيء و هي جليستها و لم تعتبر نفسها يوما واحدة من حريم السلطان.
حملت نفسها الجزعة و آنطلقت إلى مجلس السلطانة.
_أريدك في أمر مستعجل يا مولاتي.
_نعم تفضلي أنا مصغية.
_و لكن…: قالت في تردد ظاهر و هي تقلب بصرها بين النسوة المحيطة بالسلطانة ، ففهمت ما تعنيه. أمرت الجميع بالإنصراف.
حين آنصرفت النسوة ، ركعت الفتاة أمام السلطانة العجوز و طفقت تقبل يديها في تذلل و هي تقول:
_أرجوك يا مولاتي ساعديني ، لا أريد أن أكون واحدة من حريم السلطان ؛ مريه يدعني و شأني أم مريني فأترك قصرك هذا مع أني و الله ألفتك و أحببت مجلسك و نذرت نفسي لخدمتك بكل تفان و إخلاص.
ظلت العجوز مطرقة تفكر لوهلة في حل لهذه المعظلة من جهة هي لا تريد أن تكسر خاطر هذه الفتاة التي تجاملها كثيرا و قد أبدت الكثير من التفاني في خدمتها و أظرت لها من الود و الإخلاص الشيء الكثير ، لكنها في المقابل لا تقوى على لي العصى في يد إبنها السلطان الإبن ، فهو الضامن لسلطانها و ما خاضت الصراعات داخل القصر و ما دبرت الأحابيل و الدسائس إلا ليستأثر آبنها بالسلطنة على ابناء عمومته. و لا طاقة لها بخسران الملك كما حدث حين فقدت زوجها السلطان الأب. ما هي سلطانة إلا لأن آبنها السلطان و ما بقاء ملكها إلا بدوام ملكه . فلا هي اليوم قادرة على الإنصياع لكل ما يريده و لا هي بالقادرة على رفض ما تدفعه نفسه نحوه من أهواء و نزوات. لا بد من مخرج وسط ما ؛ لا يغضبه و لا يتركه يرتع في القصر كما شاء رتع البهيمة في المرج المخضر.
_إنسي الأمر الآن يا “ردينة” إهدئي و قري عينا و إني لا بد حاميتك منه و من غيره و غيره أمثاله كثر في القصر إن كنت لا تعلمين. هذا عهد مني و وعد أن لا يقربك إبني السلطان بعد يومنا هذا و أن لا يزعجك حتى بالكلام ، سآمره بهذا أمرا حازما ، و أنا أعلم أنه لا يرد لي أمرا و لا يأتي لي نهيا و لا يكسر بخاطري مطلقا. سيكف عن ملاحقتك و سيتركك في حال سبيلك . فقط عودي إلى سابق زهوك و دلالك و جمالك و لا تفسدي علي فرحتي بك و أنا التي قررت بك عينا و أنست روحي لمجالستك.
_حاضر يا مولاتي السلطانة ، سمعا و طاعة …
_أحسنت ، إطمئني ، لا خوف عليك و أنت في جناحي و ذمتي . هيا تزيني و تعطري كعادتك عودي إلي بوجه باسم كالذي عرفتك به في الأيام الأولى.
سرت الطمأنينة في نفس الفتاة المسكينة و قرت عينها بكلام السلطانة العجوز و قد اعطتها وعدا بتخليصها من كابوس إبنها المتسلط الشبق.
في غمرة فرحها تذكرت صورة “رماح” ، لم تر وجهه الوسيم منذ أيام ، على الرغم أنه كان يرسل في طلب لقياها طوال الأيام الماضية ، لكنها كانت دوما تجيب بالرفض القاطع. ربما الرفض قرار من عقلها الراجح على صغر شنها ، لكن قلبها يشتهي لقياه و النظر إلى ملامحه الرجولية القاسية و خاصة خاصة سماع ما يلقيه عليها من معسول الكلام و حلو الغزل.
بأمر من السلطانة الأم ، أشرفت ثلاث من الوصيفات على زينة الفتاة لساعات طويلة . تناهى إلى خلدها السؤال : لماذا كل هذا الحرص من السلطانة على زينتها و آختيار ملابسها و حليها بكل هذه العناية من دون باقي حريم القصر؟ لكن خشيتها من السلطانة منعتها أن تفجر فضولها على هيأة سؤال.
لما غابت السلطانة لبعض أمرها ، ناجت “ردينة” إحدى الوصيفات متسائلة:
_لماذا هذه الزينة المفرطة ؟ أين ستسهر السلطانة الليلة؟
أجابت الوصيفة بكل تحفظ :
_لا أدري ، كل ما أعلمه أن السلطانة لا تعلم أحدا بمكات السهرة إلا عندما يحين موعدها.
_ما سر هذه المبالغة منكن في زينتي و حسن آختيار لباسي و حليي؟!
_مولاتي السلطانة أمرت بذلك ، أمرتنا أن نخرجك في أجمل حلة و أبدع حسن. لقد قالت أنها تريدك في مثل زينة عروس يوم زفافها.
عندما تنازلت القطع الأولى من ظلام الليل كانت قد تمت زينة “ردينة” فبدت أكثر حسنا من اي وقت مضى .
كل ما كانت تنتظره هو فقط قدوم من سيقلها إلى سهرة السلطانة . أرادت أن تنفق ما بقي من وقت الإنتظار في النظر إلى صورتها بعجب في المرآة الكبيرة المعلقة أمامها و هي تردد: “عروس ، عروووس”.
و لسبب ما لا تعلمه ظلت تكرر عبارة “عروس” و كلما كررتها شعرت بوقع سيء لها على نفسها! إنقبض صدرها و تمنت أن لا يطول آنتظارها حتى تذهب و تصرف عنها هذا الإحساس بالوحشة حالما تدخل مجلس الطرب و اللهو.
إطمأنت حين حين سمعت صوت الباب و هو ينفتح و صوت الستائر و هي تزاح. فوقفت مستعدة للإنطلاق حيث مقر السهرة.
لكنها إنهارت على الكرسي مجددا حين رأت من دخل عليها و هي تصيح:
_هذا أنت ! ما الذي تفعله هنا؟!
لم ينبس السلطان ببنت شفة ، و واصل السير نحوها و قد بدى في نظرها وحشا كاسرا يقترب منها ليفترسها ، لقد كرهت منظره أكثر من ذي قبل: عينان يتطاير منهما الشرر و وجه يبتسم آبتسامة خبث ممزوج بالظفر.
هل تصيح فتفزع القصر بمن فيه ؟ و هل سيفيدها الصياح و هذا الوحش لا بد مطبق عليها مخالبه بعد ثوان ؟ و هل ستفيدها الإستغاثة في شيء امام هذا الكائن المتوحش المترع بالشبق الحواني؟
حتى و إن سمعها أحدهم ! و لو سمعها كل سكان القصر؟ فما تراهم فاعلون لأجها ؟ أليس السلاطين هم من يأمرون و لا يأمرون ؟ من يجرؤ على أن يقول للسلطان : لا؟!!
لن يحول شيء بينها و بين الوحش ذو الريق السائل شهوة و قد رأى الفزع يرتسم بوضوح على وجه الصبية الحسناء ، الذي زاد آنعكاس ضوء الشموع المنعكس عليه حسنا و جمالا.
تثبت ناظراها على ملامح الوحش الآخذة في التطور إلى حد أبشع و أبشع. و هي التي كرهته كرها لم تكنه لبشر من قبله بسبب ما لحقها منه من إهانة و هو يأمر بمطاردتها كفريسة أفلتت للتو من قبضة كلب صياد.
_هاهاها ، ملامح الخوف تزيدك حسنا ، أحب آيات الفزع مرسومة على وجهك الملائكي . لا تخافي و آقتربي هيا…
لم تقدر الفتاة على النطق و لو بكلمة واحدة و لو حتى على الصياح و لا هي فكرت حتى في الدفاع عن نفسها . ظلت ترتعش في مكانها و الدموع تتقاطر من عينيها. إلى أن قدرت أخيرا على نطق بعض الكلمات المتقطعة بصوت مرتعش:
_اتوسل إليك يا مولاي السلطان … أتوسل … إليك يا مولاي العظيم المعظم أن تتكركني و شأني … أرجوك … الرحمة … الرحمة يا مولاي!
أنى ترق قلوب الوحوش ! و أنى تعطف أنفس السلاطين على العامة ! و انى كان القوي يراعي في الضعيف إلا و ذمة؟!!
لم تنفع توسلاتها المشفوعة بالدمع المدرار و لا طلبها للرحمة و الشفقة في إثناء الوحش الآدمي على المضي قدما فيما جاء لأجله. بل كان يستمتع بمنظر فزعها و آضطرابها فيزيد شبقا على شبقه.
و لما أيقنت أن لا مفر من قدر تلاقيه ، عزمت على الدفاع عن نفسها و شرفها حتى آخر رمق ؛ حتى آخر عرق ينبض بالحياة و آخر قطرة دم تسري في آخر شرايينها.
رأته يتقدم نحوها ، و لما لم يبق الكثير ليدركها تراجعت باحثة علها تجد فتحة ما تنفذ منها فلم تجد.
إستدارت مجددا ناحية المرآة و شدت عليه بكمي ثوبها و ألقت بها في آتجاه رأس السلطان المتوحش. لكنه تفاداها بخفة . لكن إبتسامة الظفر الممزوج بالخبث قد آستحالت تكشيرة غضب و حنق.
زاد آضطرابها فأخذت تتحرك حركات غير منتظمة مجنونة في فضاء الغرفة الضيق. و من سوء حظها المنكود أن تعثرت بطرف ثوبها الطويل الرافل ، فأسرع السلطان الشبق بالإمساك بها و جرها من خصلات شعرها.
_إبتعد عني أيها المسعور ، أتركني عليك اللعنة … أمي … أمي … مولاتي … سلطانة …
ظلت تصيح و هو يجرها إلى المخدع ، لكن لا مجيب و لا يبد أن أحدا قد سمعها !
أنهضها من على بلاط الغرفة و طرحها فوق المخدع و طفق يمزق ثوبها ، فزاد صياحها علوا إلى أن كتمه الرجل الشبق بيده و آنطرح فوقها حتى شعرت أنها تختنق.
قضى منها وطرا و هي مغلوب على أمرها لا تقوى على الحراك و لا تملك من حيلة سوى دمعها الحار المنساب من محجريها ليستقر في أذنيها.