طول عمري كنت أحب عمتي فريال وأقلق وأخاف عليها إذا مرضت، مهما كان مرضها تافهاً، إلى أن تدخل في الأمر عالم وغد من علماء النفس، فأبلغني بأن إسراف المرء في القلق والخوف على عزيز لديه، ما هو إلا محاولة لا شعورية من عقله الباطن لإخفاء رغبة كامنة في تلافيف الشعور، بأن يكون ذلك المرض الذي أصيب به قاتلاً. فأزعجني ذلك الكلام، لكني تجاهلته على اعتبار أنه رغبة لا شعورية وكامنة في العقل الباطن عند نوع من علماء النفس الأفلاطونيين في تشويه كافة الدوافع الإنسانية النبيلة، وتعكير مزاج أصحابها بتلك الترهات.
غير أنني معذورة في خوفي وقلقي على عمتي فريال، بسبب تلك الدوخة والزغللة في العينين، وقد صارا يزورونها كل يوم تقريباً، فاستدعيت الحكيم، ذلك الرجل القصير المربوع النحيف الهادئ إلى درجة البرود، وكأنه جراح عالمي، وظل حكيم الأسرة منذ سنوات الحرب الأهلية، بدقته الفائقة وأناقته المعهودة.، وحين كشف على عمتي راح يستبعد على طريقته ما يجب استبعاده من أمراض، ثم قال بلهجة محايدة حياد سويسرا: ضغط دمك عالي حبتين، خفي المخلل، وأرجو عمل تحليل سكر. وكان تحليل السكر سلبيا، فأمر الحكيم عمتي بأسبوع من الغذاء الصحي والراحة في السرير مع بعض أقراص الفيتامينات. وهنا قالت لي عمتي، وقد رأتني جالسة أمامها لا أتحرك: حنان.
-إيه يا عمتو.
-يا حبيبتي إنتي حتذنبي روحك جنبي، قومي على بستانك وأشجارك. وسحبت كراسة وقلماً وقالت: أما اكتب جواب لتميم. فما كادت تفعل، حتى بدت على ملامحها الحيرة وقالت: لكن شو هحكيه؟. عن تذكرة الطيارة؟.
-إحكي له كتر خيرك ومحنا طالبين اليوم.
-لا. راح احكي يبعت كمان تذكره لامك. فدمعت عيناي، فقد مضى وقت طويل على تلك الواقعة، ومع الوقت انقطعت رسائل تميم ولا نعلم عنه شيئاً حياً كان أم ميتاً. فقد جرت في النهر مياهاً كثيرة. وتركت عمتي وهى تعُض القلم بعيون ذاهلة، وفي البستان جلست على المقعد الخيزران بعد أن نظفته من زهور الياسمين التي كانت عمتي تقوم وأنا طفلة بلضمها بالخيط وصناعة عقود تقوم ببيعها، وتسريح عدة أولاد من الحي بها.
الوقت أصيل، وأنا لا أرتاح لهذا الأصيل، وأفضل أن أقضيه في المطبخ، بالرغم من وجود شغالة إثيوبية تدفع لها أمي. هو أشبه شئ بإمرأة طاعنة في السن كعمتي فريال وأمي، تذهب إلى حكيم تجميل، وتعود منه لتجلس قبالتي، محاولة أن تستكشف رأيي، وكيف تبدو في عيني، وهو الرأي الذي يخيب رجاءها، إذ تشع في تجاعيد وجهها صفرة تشبه صفرة هذا الأصيل. وكانت ظلال الأشجار قد بدأت تستطيل وتتداخل في البستان، والنخلة نوجا قد اكتست بغلالة حزينة صفراء، وبجانبي سقطت زهرة ياسمين على فخذي مثل زهرة لوتس سقطت على سطح مياه النيل المقدسة. قلت هذا لابن النيل، ثم أقفلت الفون ونهضت إلى السلم صاعدة إلى المطبخ للإطمئنان على عمتي وأخر هذيانها، ثم تناولت طعام الغداء.
داليدا كانت راقدة على جنبها، تتمطى على الكنبة المواجهة لسرير عمتي فريال المستغرقة في نوم ثقيل، ثم أخذت داليدا تلمس صدرها الأبيض، وما يطوله لسانها من بطنها، مثلما كانت تفعل أمها توتي في أيام الحمل، لما كانت تريد أن تجهز أثداءها الستة لاستقبال القطيطات التي توزعت على أهل الحي الأمريكاني، ما عدا داليدا كانت من نصيبنا.
رأيت داليا في نومتها تلك ترضع أربع قطيطات مختلفة الألوان، عالقة بصدرها وبطنها مثل ديدان كبيرة نهمة، وهى مستسلمة فرحة تمد لسانها بين حين وآخر، تلمس ظهور القطيطات وتنظفها، وفي قول آخر أنه لا نظافة هناك ولا يحزنون، وإنما هى تريد الإنتفاع بما يوجد بوفرة في فروة القطيطات من فيتامين ب، ولأمر ما رأت دليدا أن تقطع عملية الرضاعة وتنهض، متخلصة بصعوبة من الديدان المتشبثة بجسمها، وهناك في الركن تركتها واتجهت مسرعة نحو السياج الأخضر تطارد فأر في طريقه لأحد الشقوق، ولم تغب في المخزن، ثم عادت متواثبة في نشاط، من فمها يتدلى الفأر يتلوى،
تقدمه لعيالها، ومطرح ما يسري يمري. بالفأر قصدت إليهم داليدا ووضعته أمامهم، فأقبلوا يشمونه ويفحصون أمر أول فأر يعاينونه في حياتهم، وأعجبتهم الوليمة، فبدأوا يمزقونها ويأكلون والأم واقفة تتفرج، ولا يخطر ببالها قط أن تصيب ولو فتفوتة. صورة رائعة لحنان الأم الذي تتميز به داليدا، بالرغم من أفعالها الأخرى العديدة التي يندى لها الجبين. وما كان لي بالطبع أن أنسى الفأر الذي لا شك من أنه ما غادر الشق إلا ليلتمس شيئاً من الغذاء، وليتني كنت قطة.
لآن الزهور رقيقة، فكان من الطبيعي أن تكون أكثر عذاباً أمام تلك الرياح الهوجاء المسماة بـالخماسين. فتلك الرياح وإن عصفت بالأشجار، فهو عصف محتمل لا يسقط منها إلا بعض الأوراق، أما عصفها الشديد فعند قمم الأشجار المرتفعة، تلعب بها بلا رحمة، وتدفعها يميناً ويساراً، فتبدو للإنسان من شدة ميلها أن جذوعها قد تنكسر في أية لحظة من هذا الطيش الربيعي. فإذا كان الشتاء يقسو على الناس في أوروبا وأمريكا وبلاد الإسكيمو، فإنه يعوض ذلك بأن يقسو علينا في ربيع صيدا القديمة برياحه الحارة الهوجاء، ويوشك أن يحرمنا منه. فإذا تغنى شعراؤنا في مشرقنا العربي بنسمات الربيع الحنون الهفهافة، فهم لا يزيدون عن كونهم ببغاوات مثل ببغائي، ويتعامون عن تلك الرياح المتربة الحارة التي تكسو الأشياء باللون الأصفر الكئيب كآبة حياتي، وتزيد العيون عماء على عمائها كعين جلال التي أقوم بالتقطير فيها بنفسي كل صباح ومساء كالطفل الصغير الذي تقوم على رعايته أمه.
فتحت باب الشرفة، فقابلتني دفعة ريح قوية مائلة إلى السخونة، إلا أنها كانت تستحق أن أجربها، فحشريتي دفعتني لذلك، وفي الداخل جلست على الكنبة البني التي كانت صفراء، ناظرة في بلاهة إلى بلاط الشرفة الذي أغرقته الرياح بزهور الياسمين التي حملتها الرياح لأعلى.. ونفخة أخرى من الريح حملت كمية من تلك الزهور إلى داخل الصالة لتزين البساط الأزرق العتيق بالدوائر البيضاء المعطرة، وصوت خبط ورزع أسمعه من بعيد على النوافذ وقطع الأثاث غطى على هذيان عمتي، والبنت الشغالة تضرب بمنفضتها الكبيرة المفزعة كل ما يقابلها من الأشياء الضعيفة العاجزة كالمقاعد وغيرها. وها هو صوت الخبط يقترب في الطرقة الطويلة، وما تلبث الحبشية أن تظهر عند مدخل الصالة، فما تكاد ترى المنظر على البلاط حتى تضرب بيدها على صدرها، فقلت لها ضاحكة “أعملك عُقد ينور رقبتك؟”. ولكنها لم تفهم، وابتعدت مسرعة إلى الطرقة الصغيرة المؤدية للمطبخ، إختفت هنيهة وعادت تحمل المقشة ذات اليد الخشبية التي تشبه مقشة الساحرة الشريرة بابا ياجا في حدوتة عمتي، والتي تهبط على البستان وتدق عظام ضحاياها من الأطفال في هونها الملتهب، إن لم يسمعوا كلام عماتهم وأمهاتهم وخالاتهم. وفي الشرفه انهمكت البنت في كنس الياسمين وإلقائه من الشرفة. وهبت ريح شديدة تفتح الباب الذي أقفلته أمي، ولوثت البساط الأزرق مرة أخرى بالزهور المبتسمة البيضاء، فتنهدت ونهضت لأجمعها، وفي راحة يدي رفعتها إلى أنفي لكي أنهل من عطرها قبل أن أضعها في الروب النبيتي. هى سوف تذبل في جيبي وتموت، لكن ربما كان جيبي قبراً أكرم لها بعض الشئ من برميل النفايات.
اقرأ ايضآ
أسرار عن داليدا .. و محطات من حياتها كما لم تعرفها من قبل…