أشياء لا تشترى بالمال! إي نعم ثمة أشياء لا تشترى بالمال. طغت المادية على حياتنا الاجتماعية؛ فبدأت المجتمعات في العقود القليلة الماضية تتحول بشكلٍ تدريجي من الاعتماد على أسواق حرة قوية ونابضة بالحياة إلى معاملة كل شيءٍ – بما في ذلك المؤسسات الأهلية، والوفاء والصداقة – كما لو كان سلعةً تباع وتشترى في الأسواق. ثمة اعتقادٌ سائدٌ أن هذا التحول مفيدٌ ومهم، وثمة اتجاه صاعد يؤمن أنصاره أن هذا التغيير الثقافي يدمر جوهر الأشياء الرئيسة في حياتنا العامة. لماذا؟ لأن “بعض الأشياء الجميلة في حياتنا تفسد ويقل قدرها إذا تم التعامل معها كسلع.” لذلك، بدأنا نرى من يطرح علينا هذه الأسئلة: هل ثمة شيء لا يمكن شراؤه بالمال؟ وما هي الحدود الأخلاقية للأسواق؟

أشياء لا تشترى بالمال! إي نعم ثمة أشياء لا تشترى بالمال
الحدود الأخلاقية للأسواق
بالرغم من وجود هذا التباين الكبير بين طبقات المجتمع ومعاناة جل هذه الطبقات من كافة أشكال الظلم، والفساد والقمع. ثمة أشياء غير كثيرةٍ لا يشتريها المال. لقد أصبح كل شيءٍ، تقريبًا، مطروحًا للبيع. ومن أطرف الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها لتوضيح ذلك الأمر:
الحصول على زنزانة حديثة ومجهزة بجميع التقنيات المتطورة في السجون. ويمكننا الاستشهاد على ذلك بما يحدث “سانتا أنا” (Santa Ana) بولاية كاليفورنيا الأمريكية. وهناك يستطيع أي سجين دفع 82 دولار أمريكي عن كل ليلة يقضيها في زنزانة نظيفة وهادئة بعيدًا عن زنزانات السجن، ما دام غير متورط في تهمٍ جنائية.
شراء حقوق ليست لنا
أصيحنا نسمع عن استئجار أرحام في الهند مقابل 6250 دولار أمريكي. لماذا؟ لأن الأزواج الغربيين أصبحوا أكثر ميلًا إلى استغلال سمات المرأة الهندية القوية التي تضمن نجاح الحمل. ويعتمد ذلك أيضًا على الاقتصاد والأمر الواقع لأن هذا النشاط مشروع وأقل تكلفةً في الهند.
كذلك، بدأنا نشهد شراء حق الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمبلغ 500.000 دولار أمريكي. هذا المبلغ يكون في شكل استثمار يقوم به الأجانب لخلق عشر فرص عمل على الأقل في منطقة ترتفع بها معدلات البطالة. وما أن يقوم الشخص بعمل ذلك، يصبح من حقه الحصول على البطاقة الخضراء التي تمنحه حق الإقامة الدائمة على الأراضي الأمريكية.
لقد حظيت الأسواق بعد الحرب الباردة بمكانةٍ غير مسبوقة. كما حظيت بنفوذ لا حدود له؛ حيث لم تعد ملزمة بتطبيق أي آليات منضبطة تؤهل حركة إنتاج وتوزيع البضائع لتحقيق الرخاء والاستقرار الاقتصادي. وهذا كله يحدث رغم زيادة عدد الدول التي تتبع آليات السوق في إدارة اقتصادها، وهذا شيءٌ لم يكن متوقعًا.
في الماضي، كانت قيم السوق تلعب دورًا أكبر في الحياة الاجتماعية. لكن بعدما أصبح الاقتصاد ميدان تجارب هذه الأيام، لم يعد منطق الشراء والبيع ينطبق على السلع والخدمات التقليدية أو المعاملات التجارية التي طالما ألفناها وشاركنا فيها. لقد أصبحنا نعيش في عالمٍ يجيز بيع وشراء أي شيء. لقد هيمنت قيم السوق وآلياته. ولم تعد فكرة البيع والشراء مقتصرة على الأشياء والأغراض المادية وحدها، بل امتدت لتشمل القيم والأفكار والمبادئ. لذلك، زادت مخاوف العامة من عدم تحقق المساواة والعدالة، وتفشي الفساد.
تخطي الصفوف
نشعر بضيقٍ شديدٍ عند الوقوف في طابورٍ وانتظار دورنا. لذلك، أصبحنا مستعدين أحيانًا لدفع أي مبلغ مقابل تجاوز من يسبقونا وتخطيهم للوصول إلى وجهتنا أو غايتنا. هذا أمرٌ مألوف بين قاصدي المطاعم الشهيرة؛ الذين يدفعون بقشيشًا لمقدم الطلبات لاختصار الوقت وجعلهم لا يطيلون الانتظار في ليلةٍ تشهد ازدحامًا شديدًا من الجمهور.
أيضًا، تؤدي الطوابير الطويلة في نقاط التفتيش بالمطارات إلى جعل رحلة الطيران مأساة لصاحبها، لكننا لسنا مضطرين للانتظار في هذه الطوابير المعوجة. لذلك، يستطيع من يشتري تذاكر الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال أن يقف في طوابير الأولوية التي تتسم بالسرعة. وهذه طوابير لها امتيازات تجعل الواقفين فيها يسبقون غيرهم من الواقفين في الصفوف المزدحمة أمام بوابات المسح أو التفتيش.
هذا ما تطلق عليه الخطوط الجوية البريطانية اسم “المسار السريع”. وهذه خدمة تقدم للمسافرين الذين يدفعون مبالغ كبيرة في سفرهم امتيازًا يمكنهم من تخطي الصفوف. لذلك، يحظى هؤلاء المسافرون بخدمات سريعة ويتم إنجاز إجراءات التفتيش الأمني واستقلال الطائرة الخاصة بهم بسرعة. هذا أمرٌ لا يقتصر على المطارات وحدها. فقد ألفنا ذلك اليوم في الملاهي والعيادات الطبية والحارات المخصصة لمرور السيارات على الطرق السريعة.
الحوافز ولغة المال
أصبحت الالتزامات والقواعد الاجتماعية والعامة مقرونةً اليوم بالحوافز المادية. وقد أدى ذلك إلى حدوث تغييرٍ كبير في سلوكيات الأفراد وممارساتهم الخاصة بهم وبحياتهم. أيضًا ثمة حوافز تتعلق بتحسين الحالة الصحية للأفراد وتحسين مستوى إنجازاتهم الدراسية أو بسلامتهم وأمنهم. على الرغم من ذلك، تباينت ردود أفعال أولئك الأفراد في الالتزام والاستجابة لهذه الحوافز.

صلاح وتألقه لا يشترى بالمال لكن المال حافزٌ كبيرٌ له ولولا المال لما لعب مع ليفربول
من ناحية أخرى، يستخدم المسئولون لغة المال أحيانًا لتشجيع الأفراد على الاهتمام بصحتهم. ولذلك، تقدم بعض المؤسسات حوافز مالية للعاملين فيها مقابل تناول الأدوية والتحصينات المقررة لهم أو الامتناع عن التدخين وغير ذلك من أمور. هذا أمرٌ يدفعنا إلى التفكير في إضفاء الطابع المادي على كل مظاهر حياتنا. ومن ثم، يجعلنا هذا الأمر نسأل: هل نشتري السلوكيات الإيجابية بالمال؟ بالطبع لا، لكننا نستخدم المال أحيانًا كحوافز.
المال حافز لشراء ما لا يشترى
أيضًا، يدفع بعض الآباء مالًا لأبنائهم لتحفيزهم على القراءة، فيما تشجع بعض المدارس فكرة المكافأة والتحفيز المادي لحمل الطلاب على القراءة والاطلاع. ماذا لو كان بعض متعة القراءة في وجود رغبةٍ حقيقية في القراءة؟ إننا نحرم الأطفال من أن يكون لديهم دافعٌ حقيقي للقراءة بإعطائهم المال مقابل قراءتهم. فلن يكون لديهم أي حافزٍ للقراءة إذا لم تكن هناك مكافأة لهم.
وعطفًا على ذي بدء، تقودنا هذه الأمثلة إلى التفكير في مدى المشقة التي قد يواجهها صناع القرار والمشرعون عند كتابة تشريع يحفز المواطنين على التصرف بطريقةٍ تعود بالنفع عليهم (وعلى بلدتهم، ومدينتهم ودولتهم). وهذا ما يمكننا التدليل عليه بالغرامات التي تفرض على الأفراد عند مخالفة نص القانون.
وكذلك، يلتزم الأفراد بدفع رسومٍ مقابل خدمات أو إجراءات خاصة بهم. كما يلتزمون بدفع غرامات عند مخالفة القواعد والقوانين التي يجب عليهم اتباعها. لكن منهم من يدفع من منطلق شعوره بالتقصير ويندم على سلوكه وينوي عدم العودة إلى فعل تلك المخالفة مرة أخرى، ومنهم من يرى في الدفع راحةً له عن تحمل مشقة الالتزام بالقواعد، ويرى قيمة الغرامة بسيطة ويمكن تحملها ويواصل ارتكاب المخالفة مراتٍ ومرات.
في النهاية، يجب أن تعود الفلسفة الأخلاقية إلى حياتنا من جديد لأن الأسواق، التي فرضت علينا ربط كل سلوكياتنا ومواقف حياتنا بالفكر المادي، تقوض القواعد والعادات غير السوقية بشكلٍ يتفاوت من حالةٍ إلى أخرى. لذلك، يجب أن نفكر في موضوع الحوافز المادية ومدى جدواها حسب تقييم أخلاقي، أم أن المال قد طرد الأخلاق من حياتنا بلا رجعة.
أشياءٌ لا تشترى بالمال
هل هناك أشياء لا تشترى بالمال؟ نعم هناك أشياء لا تشترى وأشياء لا ينبغي أن تشترى. انظر إلى الصداقة، ولنفترض مثلًا أنك تريد كسب المزيد من الأصدقاء، هل ستحاول شراء بعضهم؟ إذا فكرت لحظةً في ذلك الأمر ستصل إلى قناعةٍ بأن ذلك الأمر غير ممكن.
لذلك، لن يستطيع صديقك الذي تستأجره أو تشتريه بالمال أن يفعل معك ما يفعله صديقك الحقيقي بالضبط – يعتني بأطفالك عندما تكون غائبًا، يستمع إلى أطراحك وهمومك، يسدي لك نصيحةً خالصة. ومن ثم، يؤدي المال الذي يشتري الصداقة إلى تجريدها من قيمها وأخلاقها ويحولها إلى شيءٍ آخر.
أيضًا، انظر إلى كلية الإنسان كسلعةٍ يمكنك شراءها، وفكر فيمن يبيع ومن يشترى؛ وهذه مسألة تثير جدلًا أخلاقيًا في كل مكان. ثمة من يدافع عن الأسواق ويرى صلاحيتها لتجارة الأعضاء، وهناك من يرى عارضًا أخلاقيًا أمام مثل هذه النوع من الأسواق؛ فيعترض على هذه التجارة ويراها أمرًا مرفوضًا.
بلا شك، ستعمل الكلية وتؤدي وظيفتها بغض النظر عن سداد قيمتها النقدية، لكن علينا القيام باستعلامٍ أخلاقي يساعدنا على تحديد ما إذا كان ينبغي طرح الكلية للبيع أم لا. علينا أن نتحقق وندقق في الحجج المطروحة لصالح أو ضد تجارة الأعضاء لنرى أيها أكثر إقناعًا.
سلع تشترى وأخرى لا نرغب في شرائها
على الرغم من أن المال لا يشتري الصداقة، إلا أنه يشتري تذكارات، وأوسمة وأشياء معبرة عن الصداقة. كذلك، ثمة سلع مرعبة لا يمكن شراؤها، لكنها معرضة لوجود فساد أو أي ممارسة مشبوهة. هل يستطيع أحد شراء جائزة نوبل؟ بالطبع لا. وحتى إن تم طرح واحدة في مزادٍ علني كل عام، لن تكون الجائزة المشتراة كالجائزة الحقيقية.
أخيرًا، أكدت الدراسات أن آليات السوق المادية قد لا تجدي نفعًا في بعض الحالات، وهو ما عكسته نتيجة استطلاع رأيٍ أجري في إحدى القرى السويسرية عن إنشاء مستودعٍ للنفايات النووية في القرية. في البداية، أعلن 15% من العينة التي شملها الاستطلاع مواقفتهم على الفكرة بدافع الوطنية وتحمل المسئولية، لكن عندما تم عرض الفكرة على أساس حافزٍ مادي؛ تراجعت نسبة التأييد إلى النصف، لأن المشاركين رأوا في ذلك نوعًا من الرشوة المرفوضة.
هيمنة الفكر المادي
للأسف، لجأت بعض المجتمعات المعاصرة إلى إنشاء أسواق للموت؛ من بينها شركات التأمين على الحياة. فقد ظهرت أنماط عمل جديدة، وبدأنا نرى مريضًا يفقد الأمل في شفائه يبيع بوليصة التأمين الخاصة به مقابل مبلغ أقل من قيمتها كتجارةٍ يستفيد منها المشتري.
أيضًا، تقوم بعض الشركات بالتأمين على حياة العاملين فيها مقابل الحصول على بوليصة التأمين بدلًا من أسرة المتوفي. هذا عملٌ غير أخلاقي بالمرة؛ خاصةً وأن بعض الشركات تلجأ إلى مثل العمل دون علم العامل، وربما ظل التأمين ساريًا رغم فصل العامل أو تقاعده.
لقد غزت الأسواق أراضٍ جديدة تعدت حدود الدنيا، وعم الفكر المادي كل تعاملات البشر حتى صار البشر أنفسهم معروضين للبيع باسم الرياضة والفن، وأصبحنا نرى سماسرة وتجار يتوسطون بين اللاعبين والأندية، وبين النجوم وشركات الإنتاج، مقابل الحصول على نسبةٍ من التعاقدات المبرمة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد إلى بيع حقوق الرعاية واستخدام الاسم التجاري؛ حتى صرنا نتحدث دون شعورٍ بالدهشة أو التعجب عن دفع المؤسسات مبالغ طائلة مقابل أن يظهر اسمها على أنديةٍ، أو ملابس، رياضية، فضلًا عن الإعلانات التجارية التي لم تترك مجالاً إلا دخلته، ولا طريقًا إلا سلكته، وأينما وجهت وجهك وجدت الإعلانات في كل مكان، وربما حتى على جدران المراحيض العامة.
خاتمة
شهد عالمنا المعاصر نموًا سريعًا للسوق ومبادئها التي غزت كل مناحي حياتنا. وقد أدت هيمنة الأسواق على مظاهر حياتنا اليومية إلى وجود نقاشات وحلقات جدلٍ في كل مراكز البحث الأكاديمي واجتماعات الخبراء والعلماء والقادة. ومن ثم ظهر السؤال الذي يحتاج منا جميعًا إلى إجابةٍ واضحة: هل نريد حقًا مجتمعًا تحكمه قيم التسوق ويغلب عليه الطابع المادي، ولا نشهد فيه التزامًا مجانيًا بالقيم والأعراف والأخلاق؟
اقرأ أيضًا