اللغة العربية لغة إنسانية حية متكاملة، لها نظامها الصرفي والنحوي والتركيبي، ولألفاظها دلالتها الخاصة بها. وكل خروج على هذا النظام اللغوي المتكامل يُعدُّ لحناً. سواء أكان هذا الخروج بخلط الكلام العربي بلغة أخرى. أم في استعمال اللفظ في غير موضعه. أو في مخالفة أيّ عنصر من عناصر كيانها اللغويّ الذي يميّزها عن غيرها من اللغات الإنسانيّة الأخرى.
كما ان ظاهرة اللحن في اللغة العربيّة ليست وليدة العصر الحديث. فقد ظهر اللحن في كلام الموالي والمتعرّبين منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. حيث ذكر أنّ رجلاً لحنَ بحضرته فقال:” أرشدوا أخاكم فقد ضلّ ” وروى الجاحظ أنّ أوّل لحن سمع في البادية قول أحدهم: هذه (عصاتي) بدل (عصاي).
ثم فشا اللحن في العصر الأمويّ حتى وقع فيه بعض الخلفاء. بالرغم من أنه كان عيباً يتحاشاه الناس، وقال عبد الملك ابن مروان:(شيّبني ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن). فظاهرة اللحن مشكلة طارئة على اللسان العربي. ولم تكن قائمة حينما كانت اللغة ملكة في ألسنة العرب. لكن لما خالط العرب غيرهم من الأمم في حياته الدينية والاجتماعية والاقتصادية. ثم صار من غير الممكن المحافظة على صفاء اللغة ونقائها. فنشأ على ألسنة الناس ما عرف باللهجات العاميّة.
اللهجة العامية
فاللهجة العامية هي اللسان الذي يستعمله عامّة الناس مشافهة في حياتهم اليوميّة، لقضاء حاجاتهم والتفاهم فيما بينهم. ومع مرور الزمن تتخذ هذه اللهجة صفات لغوية خاصّة بها. فاللغات العامية في البلاد الناطقة باللغة العربيّة ما هي إلا لهجات محليّة يتحدّث بها عامّة الناس في حياتهم اليوميّة. ومع أنّها قد انسلخت عن اللغة العربية الأمّ، وأنّها قد استمدّت معظم ألفاظها وتعابيرها منها. فإنّ اللهجة الواحدة منها تختلف عن مثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى. وقد تصل إلى حدّ التنافر والافتراق في بعض جوانبها، بسبب العوامل الطارئة عليها من خارج اللغة الأمّ، نتيجة لظروف جغرافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة معيّنة.
واستغل خصوم العربيّة هذه اللهجات المحلية. فقاموا بمحاولات مشبوهة للنيل من لغتنا الفصحى. وذلك بالدعوة إلى إحلال العاميّة محلّ الفصحى. فكان أول من أطلق هذه الدعوة الدكتور الألماني “ولهلم سبيتا”. ثم تلقفت دعوته صحيفة “المقتطف” المعروفة بميولها الاستعمارية ونشطت الدعوات لنشر العامية. كما ألفت الكتب باللهجات العامية. ومنها على سبيل المثال: كتاب “أحسن النخب في معرفة لسان العرب” لمحمد عياد الطنطاوي، وكتاب “الرسالة التامة في معرفة لسان العامّة” لميخائيل صبّاغ….
كما تصدى الحريصون على سلامة العربية الفصحى لدعوات إحلال العاميّة وبينوا أن اللهجات العاميّة تشوه ولا تخلق. وهذه اللهجات لا تصلح للكتابة. إذ ليس لها قواعد تضبطها. واللهجات العاميّة لا تستطيع التعبير إلّا عن المعاني الساذجة. فهي فقيرة بعدد مفرداتها وتراكيبها وجملها، وأساليب البلاغة فيها. ثم لا ننسى أنّ اللهجات العامية لا تستقرّ على حال ثابتة.
بل هي عرضة للتحوّل والتبدّل من حين لآخر. وذلك لافتقارها للقواعد اللغوية الضابطة. هذا الأمر يؤدي في نهاية المطاف إلى انقطاع الاتصال بين الأجيال المتلاحقة جيلاً بعد جيل. كما إنّ الدعوة إلى العاميّة لم تستنفد أغراضها بعد. ودعاة العامية لم يلقوا أسلحتهم بعد. بل أخذوا يتفنّنون في عرض الوسائل والأساليب التي تحقق أغراضهم. كما إنهم يريدون للعربيّة ما حصل للغة اللاتينية. حين تحوّلت لهجات الشعوب المتكلّمة بها إلى لغات جديدة، عاشت على أنقاض اللغة الأمّ.
ونظراً لخطورة هذا الأمر كانت علينا، وعلى جميع العاملين في حقل تدريس اللغة العربيّة. كان لابد من تبيان مخاطر الدعوة إلى العاميّة، وإدراك مراميها القريبة والبعيدة. فلا يجوز أن نهوّن من أمرها، فاللغة العربية أمانة في أعناقنا، وضرورة حتمية تتطلب المزيد من الرعاية والاهتمام والبذل والتضحية.
اقرأ أيضًا
كيف تتعلم لغة جديدة بسرعة: دليل خطوة بخطوة
لماذا وكيف أتعلم اللغة الفرنسية؟
كيف تتعلم لغتين في نفس الوقت ؟
4 تعليقات
من خلال قراءتي للمقال أعتقد أنه قد عالج موضوعا مهما من الناحية الاجتماعية والانسانية، حيث تعتبر اللغة من رموز الوحدة الثقافية والهوية الحضارية لما تحمله من روابط تجمع الأفراد الذين يتحدثون بلغة معينة، وأن اللهجات المنبثقة من اللغة تؤدي إلى تجزيئ وتفكيك أحد رموز الوحدة الثقافية (اللغة). ويعد هذا تهديدا للهوية.
نعم انتشرت هذة الظاهرة و الكثير يعاني منها كثيرا للأسف، لكن أظن أن هذه المحاولات مآلها الفشل ، لأن اللغة العربية هي محفوظة بحفظ القرآن لها و الحمد لله
لغتنا العربية لغة القرأن الكريم ولغة الضاد ومن واجبنا الحرص عليها والاعتزاز بها وتعليمها لأبنائنا شكرا على هذا المقال المميز
حقا نحن في حاجة إلى الدفاع عن لغتنا رمز هويتنا وقوميتنا ، بعيدا عن الإسفاف الذي يدعو إليه دعاة العامية المتحولة والمتباينة المتسمة بعدم الاستقرار ، فلايمكن لها أن تعوض الفصحى وتحل محلها لماتفتقده من نسق نحوي وبلاغي وفونيتيكي ..كذاك الذي يسم نسق الفصحى ومافيها من سحر وفتنة تسبي العقول وتمتع الأذواق
لقد أسهب الكاتب حقيقة بحمية منقطعة النظير في الدفاع عن الضاد دفاعا شرسا ولابد أنه سيجد في صفه الكثير الكثير ممن تدفعهم وتحركهم نفس الحمية وتلهبهم ذات الحماسة في الذود عن أساس متين من أساسات هويتنا الثقافية
شكرا للكاتب الكريم على هذه الالتفاتة الطيبة الحاملة للغيرة على لغتنا الجميلة