ابني… قصة قصيرة واقعية جدًا تتكرر أحداثها كثيرًا في الحياة بنفس الطريقة أو بطرق أخرى مختلفة لكنها في النهاية تحمل نفس القسوة.
وَقَفَتْ في الشارعِ تلَوِّحُ برداءٍ قديمٍ مشقوق من منتصفه كأنما قد ضاقت به الحال أو (طَقًّ) من الحياة. كانت عاريةٌ تمامًا ولا يغطي جسدها سوى قطعةٌ من قماشٍ قديمٍ تلفها حول وسطها لكي تخبئ ما تعاف العيون السليمةِ أن تراه.
أخذت تقترب رويدًا رويدًا من مقر مركز الشرطة وهي تصرخ. وكلما صرخت، كلما التف المزيد من الناس حولها، وتبدد آخرون خوفًا من أن ترى عيونهم ما هم بالفعل ينظرونه ويشاهدونه متغافلون. صرخاتُها كانت تزداد كلما اقتربت، وبعضٌ من الناسِ كانوا يحاولون باستماتةٍ إلباسها الرداء القديم المشقوق الذي تلَوِّحُ به.
مع اقترابها أكثر فأكثر، ارتفع صوتُ صُراخها. فأسرع نحوها اثنان من الحرس الواقف أمام باب قسم الشرطة. زجراها. صرخا في وجهها (حتى تنكسف على دمها) وتلبس الرداء الذي تقبض عليه بيدها. استمرت تصرخ وتولول وتصيح في وجوههم: ولدي … ولدي.
ظن بعض من كانوا يسمعونها أنها ربما تكون قد فقدت ولدها وتبكيه.
قال آخرون: ربما قتِلَ ابنها … فالبلدة هذه الأيام ليست في أمان والقتل كثير.
كلما زجرها واحدٌ من الشُرطِيين أو ركلها حتى ترتدع وتُوُقِف الصياح، كلما علا صُراخُها وازداد. طفق كثيرون يعيبون على الشرطي وينهرونه، وآخرون حاولوا دفعه للخلف وإرجاعه عنها. فأخذ يَسُبها بسبب (عمل إزعاج في ناحية المركز).
تعاطف المارةُ معها، والتف العديد منهم حولها. استمروا في تهدئتها لتُخْفِض من صوتها حتى يتركها الشُرطي ويكف عنها. والبعض أخذ في مواساتها وتعزيتها في فقدان ابنها.
بعد المزيد من الجُهد هدأت قليلاً. وبدَلت الصُراخ وصارت فقط تنتحب وتولول. الدموع كانت تنزل من عينيها مدرارًا، وهي تتحسس صدرها ورقبتها. كانت توجد بقع وعلامات حمراء وزرقاء، وأثار دم متجلط وطازج، وانتفاخات، وبعض من الخدوش المتفرقة.
ظَنَّ مَن التفوا حولها أن كل هذا من أثر اللطم على خدودها وضربها لنفسها على باقي أجزاء جسدها كما هي العادة هُنا عندما تفقد الأمهات أحد أولادها. وأن الأزرق ما هو إلا لون صبغة (الزَهْرَة) التي تضع منها، في مثل هذه الظروف، الكثيرات من سيدات الصعيد، علامةً على الحزن الشديد. جلس بعضهم حولها على الرصيف، والشرطي حائرًا وقف، والناس تقوم بتعزيتها.
ثم صرخ فيها شرطي وسألها: هه … إيه اللي حصل؟!
فزعقت هي بأعلى ما تبقى من صوتها. وتكلمت من بين دموعها وأنفاسها المتلاحقة المختنقة، وهي تضرب على صدرها بكلتا يديها: ابني … ابني.
لم تشفي الإجابة غليل الشرطي الذي سأل. فانفجر فيها: هه … اتكلمي … ماله ابنك؟
صرخت بحسرةٍ ولوعةٍ أشد وأقسى، وهي تحني رأسها بِذُلٍ وانكسار. وكلماتها تخرج من بين شفتيها الداميتين متقطعة: ابني… ابني… ابني ضربني… وطردني من البيت … علشان … علشان … يتجوز فيه.
فغر الناس أفواههم حين صدمتهم الحقيقة، وضرب كل منهم كفًا بكف يلعن الدنيا وما فيها من قسوةٍ، ثم وقفوا بعد لأي وهم حيارى فيما يمكن أن يفعلوه، لكنهم بدأوا في المغادرة، فرادى أو جماعات صغيرة. تاركين المرأة غارقة في بحر صراخها. والشرطي لا زال يزجرها ويركلها، لتذهب بعيدًا لأنها تعرت ثانيةً لتريه كل جروح جسدها التي تنزف، وكل روحها التي منها تنسكب وتفيض…
للمزيد:
1 comment
الله مااقسى هذا القلب الذي يتجرء ويمد يده على امه حملته امه تسعه من الشهور وهل هاذا جزاء ماحملته في بطنتا اخ اخ وتاتي امرأه تقول له انا او امك