على غير موعد .. لست أدري ما الذي جعلني أقوم بإلغاء سفري في موعده المعتاد من كل أسبوع. فبعد انتهاء ساعات العمل كل خميس، كنت أذهب مباشرةً حاملاً حقيبتي الصغيرة؛ التي لا تحوي في العادة سوى اللابتوب وبعض الكتب وزجاجة مياه. وربما شيئًا لآكله في الطريق إلى محطة القطار في رمسيس سيرًا على الأقدام معظم الأحيان. لقرب المسافة، ولرغبتي في بذل بعض المجهود البدني الذي ربما يساعد في خفض وزني المتزايد في الآونة الأخيرة.
لكن هذا الخميس –ورغم ارتباطي بتسليم بعض الكتابات ومقترح لأحد االمشروعات بالإضافة إلى بعض جلسات لكورسات تعليمية أقدمها للطلبة في بلدتي الجنوبية أثناء يومَّيِ الإجازة الأسبوعية- وجدتني في موعد السفر غير راغبٍ فيه. فتحولت من طريق السفر إلى الشقة السكنية المشتركة التي أقطن فيها. لأجد صديقًا من بلدتي قد حضر ليشارك في تدريبٍ تقدمه إحدى المؤسسات التنمويةِ في القاهرة. فقررنا أن نقضي السهرةَ سويًا على أحد المقاهي القريبة في منطقة “غمرة”. وأن نلعب “الطاولة”، ونشاهد مباراة فريقي برشلونة وليفانتي في ذات الوقت. فنحن الاثنان مغرمان بتشجيع فريقي الأهلي المصري وبرشلونة الأسباني. وقد خرجنا مع بعض شركاء السكن الآخرين الذين يقاسموننا نفس الغرام.
على غير موعد
لم أكن أعرف أي مقهى سوف يختارونه لقضاء السهرةَ فيه.
فلقد تركتهم هم الأكثر خبرة بالمنطقة ومقاهيها ومحلاتها ومطاعمها يقودونني حتى وصلنا إلى المكان الذي قصدوه لأجده الأقرب لبيت من كانت نورٌ لقلبي ونارٌ لعقلي لا زالت جذوتها عصية على الانطفاء وذكراها غير قابلةٍ للحذف بل ومتحكمة في حياتي رغم طول البعاد باختيارنا وبإرادتنا.
اتخذنا في المقهى الذي كان ينصب حواجزًا تعزله عن الشارع مكانًا بعيدًا عن مصدر فحم “الشيشة”، قريباً من مدخله ومن الهواء الطلق. حتى نخفف من شم رائحة دخان سجائر و”شيشة/ أرجيلة” المدخنين الكُثَّر في المكان، متحملين البرودة الشديدة لطقس يناير. طلب كل واحدٍ منا مشروبه وطلبنا “الطاولةthe backgammon ” لنلعب. صديقي كان يتفاخر طوال الطريق بمهارته. وبأنه من المؤكد سوف يفوز إلا أنني وضعت كامل تركيزي وانشغالي في اللعب خوفًا وقلقًا من شيءٍ ربما يحدث – فإحساسي بتواجدي بالقرب من مسكنها، واحتمالية أن تراني لو مرت من هناك لأي أمر، أو خوفي أنا من ردة فعلي لو رأيتها … لست أدري بالضبط- كل هذا جعلني أجاهد وأستميت في اللعب. حتى وصلت النتيجة بيني وبين صديقي المتفاخر أربعة أشواط لي مقابل لا شيء له. وانتهت النتيجة إلى فوزي في النهاية بخمسة أشواط لي مقابل شوطًا واحدًا له.
صديقي: إنت محظوظ جدًا في اللعب انهاردة
أنا (ساخرًا): المحظوظ في اللعب تعيس جدًا في الحب
بدأ إذاعة مباراة كرة القدم المنتظرة على شاشات التليفزيون المتناثرة على حوائط المقهى الأساسية بعد انتهائِنا من لعب الطاولة. فتحول تركيزنا إلى الكر والفر بين لاعبي الفريقين في المباراة. وقد ازدادت الأحداث فيها سخونة بعدما تلقى فريق برشلونة الذي نشجعه هدفين في أقل من عشرين دقيقة على غير المعتاد.
في منتصف الشوط الأول طلب صديقي أن يعود للشقة بسبب شعوره بالتعب والارهاق والاحتياج للنوم ثم غادرني. ومن بعده؛ وقبل انتهاء الشوط، غادرت باقي المجموعة. لكي أبقى أنا وحدي في المقهى متابعًا المباراة حتى انتهى شوطها الأول وجاءت فترة الاستراحة وإعلاناتها التجارية وفواصل التحليل الرياضي.
وجدتني في هذه الدقائق مأخوذًا بعيداً لسنواتٍ مضت. كنت فيها مشتعلاً بمشاعر الحب وغارقًا في أعاصير وأمواج بحره العاتية. ما بين مدٍ وجزرٍ انتهى بانقطاع شبه نهائي تاركًا إياي أعيش وحيداً مع بقايا الكلمات والذكريات والمشاعر.
أيامٌ مضت، وشهورُ تحولت إلى سنوات وصل عددها إلى خمس قابلت خلالها الكثير من الفتيات والبنات للتعارف بغرض الزواج. في كل واحدةٍ منهن كنت أبحث فيها عن بعض من ملامحها. من دفء مشاعرها، من تواصلها وفهمها لي واحساسها بما أشعر أو فيما أفكر دون أن أقول. أبدًا لم أجدها أو أجد بعض منها في أي منهن. حتى عندما كنت أُطيل مدة التعارف مع أي منهن، والأحاديث الليلية بالهاتف معهن، حتى لو وصل الحال للفظ كلمة “أحبك” متبادلة مع إحداهن، أبدًا لم تكن أيهن كما كانت معي هي. بل كان الحال أنه ومع أول اختلافٍ يحدث حتى ولو على أبسط الأشياء كنت فقط وفي الحال أرحل.
فأنتن لسن هي ولن تكنْ أيًا منكن أبدًا.
هنا، وبينما كان المذيع يعلن بداية “الشوط الثاني” للمباراة. ورغم أنه سيكون شوطًا مليئًا بالإثارة لرغبة الطرف الأقوى، فريق برشلونة، في العودة في النتيجة. إلا أنني نهضت وتركت مقعدي قبل ضربة البداية. حاملاً على كتفي جبال الذكريات. مغادرًا المقهى والشارع. عابرًا أسفل كوبري غمرة في اتجاه العباسية. وفي محاولةٍ مني للتشاغل بشيء آخر، وقفت أمام محل حلويات شرقية أختار منه بعضها. لي ولصديقي. ناقضًا قراري في أن ألملم أطراف جسدي المترامي بالإقلال من الطعام. خاصةً عالي السكريات والنشويات والزيوت.
بعدها اشتريت بعض المشروبات الغازية والحلوى المغلفة المليئة بالمكسرات من أقرب بقالة. ثم صعدت سُلَّم البناية التي نقطنها متباطئًا ومتكاسلاً. دخلت الشقة ووزعت ما كان معي على صديقي وبعض من شركاء السكن. محتفظاً بنصيبي الذي تبقى لي في الثلاجة حتى الصباح. استبدلت ملابسي بملابس النوم. فتحت “موبايلي” لأتصفح الانترنت وألقي نظرة على صفحتي على “الفيسبوك”.
سألني صديقي: امتى هتسافر؟
فأجبت بغير تأكيد: في الصباح.
طلب مني أحدهم أن أحمل شيئًا معي لأوصله لأخيه في محطة قطار المنيا. فقبلت قائلاً “لو سافرت فعلاً، أكيد مش هتأخر” فأحضر لي (كيسًا) صغيرًا وضعته بجواري على “الترابيزة” وأكملت التصفح في الموبايل.
بعد قليل، فتحت لعبتي المفضلة في الوقت الحالي “Dragon Mania” التي كنت فيها أقوم بتربية عددًا كبيرًا ومتنوعًا من التنانين. كانت هناك بيضة في الحَضَّانَةِ لتنينٍ من فئة تنانين الطاقة وقد حان وقت فقسها . من عادة اللعبة أن تعطي كل تنين جديد اسم لا أتدخل أنا في تحديده. وكانت الاسماء التي تختارها اللعبة لتنانيني متنوعة من كل الثقافات واللغات والجنسيات. ولم أكن أهتم بهذا قط. ولكن، عندما ضغطت لتفقس البيضة واختار للتنين الصغير بيته في مكانٍ خالٍ في مزرعتي الافتراضية. ظهرت على الشاشة بيانات التنين: نوعه، لونه، عدد العملات التي ينتجها في الدقيقة، المستوى الذي هو فيه الآن وكم يحتاج من طعامٍ لينتقل إلى المستوى الأعلى، وأخيرًا اسمه.
“يا إلهيييييي”
كلمة ترددت في داخلي بصوت أحد معلقي مباريات كرة القدم المشاهير. فاغرًا فاهي غير مصدق. قرأت كل حرفٍ من حروف الاسم “الظاهر” على شاشة موبايلي في قائمة بيانات التنين،
لقد كان الاسم اسمها!!!
من بين كل الأسماء التي في الدنيا، ومن بين كل الأيام التي لعبت فيها هذه اللعبة، يحدث اليوم وفي هذه اللحظة التي أفكر فيها أن يُكتب اسمها أمامي هكذا؟!
سرحت بخيالي بعدما أغلقت اللعبة على الموبايل الذي وضعته جانبًا. وفتحت اللابتوب ليعرض فيلم “آشير Asher” بطولة “رون بيرلمان “Ron Perlman الذي قمت بتنزيله من الانترنت نهارًا لكي أشاهده ليلاً. تركت الفيلم يعرض صوره وموسيقاه واحداثه العنيفة والرومانسية التي تتخلله في بعض ثواني عرضه. وانتقل قلبي يتخيل أن نلتقي أثناء سيري في شارعها عائدًا من المقهى.
- ماذا كنت سأفعل؟
- هل كنت سأوقفها في الطريق؟
- وماذا كنت سأقول لها؟
- كيف ستكون تعبيرات وجهي أمامها؟
- هل سيتحمل صدري دقات وقفزات قلبي حين يراها؟
- هل عيناي ستبكيان؟
- وهل ستحتضنها دموعي وضلوعي؟
- هل ستقف لتحادثني؟
- هل……؟؟؟؟
على رجع الذكريات وفي لُجج التساؤلات وقبل أن ينتهي الفيلم نمت … أحْلُّمُ.
في صباح اليوم التالي الذي وافق يوم الجُمعة، صحوت متأخرًا على غير عادتي منذ أن انتقلت مجددًا للعمل في القاهرة. متكاسلاً كنت بالرغم من قراري بضرورة السفر. شيءٌ ما يعمل على تعطيلي. صديقي الذي كان نائمًا على سريرٍ آخر في نفس الغرفة لم يكن له وجود. يبدو أنه استيقظ مبكرًا وخرج. تكاسلت في القيام من فوق سريري. استمررت على وضعي نائمًا وعيناي شاخصتان لسقف الحجرة الصغيرة.
لم أرغب حتى في معرفة كم أصبحت الساعة.
بعد فترة في الصمت والسكون لم أدري كم طالت. فتح صديقي باب الغرفة ليُفاجئ بوجودي.
صديقي: إيه ده.. أنت لسه مسافرتش؟؟
- أنا: آه .. بس هسافر
- صديقي: امتى؟
- أنا: على الساعة اربعة كده
في بطءٍ قمت، تاركًا إياه يشرح لي كيف استيقظ مبكرًا ثم ذهب يزور حديقة الحيوان في الجيزة كنوع من الفُسحة. ثم وهو عائد زار أصدقاءًا له يعملون في جمعية تنموية قريبة أعرف بعض ممن يعملون فيها أنا أيضًا.
تركته وخرجت لأغتسل وأبدل ثيابي. قمت بِكَيِ بعض الملابس التي كانت منشورة في الهواء بعد غسيلها البارحة. برودة الشتاء لا تساعد على تجفيف الملابس بسرعة، ليس بالنهار، فما بالك في الليل؟!
رتبت متعلقاتي، وأخذت شنطة اللابتوب وشنطة أخرى صغيرة بها متعلقات قليلة وزجاجة مياه. والكيس الذي يحتوي على ما سيتم تسليمه في محطة قطار المنيا.
غادرت الشقة في حوالي الثالثة عصرًا. هابطًا الدرج سريعًا لألحق بالقطار. إلا أنه بعدما وصلت إلى كوبري غمرة متجهًا نحو محطة رمسيس تذكرت أني قد تركت نظارتي على حوض الحمام. فعدت سريعًا وأخذتها. ثم رجعت لمواصلة الطريق.
كنت لا زلت أفكر فيها. ولا زال السؤال بلا إجابة:
ماذا فعلاً قد يحدث إذا ما كنت قد قابلتها ليلة أمس؟
الإجابات في رأسي كانت كثيرة. لكن قلبي تحدث: سأوقفها، سأصافحها بيدي وبقلبي وبروحي، سوف لن أقول سوى كلمة واحدة… “واحشاني”
سوف أخذها إلى أي من أماكننا التي كنا نتقابل فيها من قبل. أو ربما إلى مكانٍ جديدٍ تمامًا لبداية جديدة أخرى. سنجلس وكأن شيئًا لم يكن. سوف ننسى تلك السنوات العجاف التي مرت دونما نرى بعضنا البعض أو نسمع صوت بعض. سوف نمحو من الزمن كل ما ومن أحزننا.
- سأقول: أخطأت، فسامحيني
- ها أنا قد عدت، فاقبليني
- غيرك ما أحببت، فهل لا زلت تحبينني؟!
أخذني الطريق في اتجاه ميدان رمسيس دونما أشعر إلى أين وصلت. وعند مروري أسفل كوبري المشاة الواصل بين شارع رمسيس ومنطقة الشرابية، حاذيت الرصيف على يميني. وقد استرعى انتباهي سيدةٌ متشحةٌ بالأسود تسير عكس اتجاهي. أكثر ما جذب انتباهي وهي قادمة من بعيد وقبل ان أتبين ملامحها أنها كانت تتعثر في الخطو. مترددة تأتي كلما اقتربت. تنظر نحوي ثم تُحَوِلَ رأسها نحو اليسار لتتحاشى التقاء عيوننا. ثم تعود لتنظر ناحيتي من جديدٍ وكأنها تريد أن تتأكد من شيء…
هل هذا أنا أم لا؟
خفق قلبي كثيرًا مما قفز في تفكيري عمن تكون هي. وكلما اقتربت المسافة وانكشفت ملامحها أكثر لي وقد ازدادت محاولاتها للاختباء، كلما تزايدت دقات قلبي وانعقد لساني وتوقفت عيناي عن النظر إلا نحوها.
يا ربااااااااااه .. نعم .. حقيقي.. إنها هي.
ربما تكون قد فقدت بعض من وزنها في مقابل زيادة وزني أنا.. إنها هي… تحاول أن تتحاشى تلاقي نظراتنا… تُسرع الخطوات حتى تتخطاني وتتحاشاني… تريدنا أن نتعامل كغرباء… ولكن كيف؟ أبدًا ما فكرت في رد فعلها هي كيف سيكون إذا ما رأتني.
فقط كنت أفكر فيما سأفعله وأقوله أنا.
إنها هي …
اقتربنا كثيراً من بعضنا البعض…
مرت سريعًا بجواري دون أن تتوقف…
أخيرًا …
أخيرًا تكلم لساني، “ممكن أسلم عليكي بس؟”
نطقتها راجيًا وقلبي يخفق.
توقفت خطواتها مترددة. مدت يدها وردت: ازيك؟ أخبارك إيه؟
سريعًا تلقفت أصابعي أصابعها، لا زالت يدها دافئة كما كانت دومًا. لكنها كانت ترتجف. سحبت أصابعها سريعًا وخطواتها كانت تستعد للاستمرار في السير.
أنا: الحمد لله، وانتي أخبارك إيه؟
كنت اريد ان أقول لها الكثير والكثير. كنت أريد أن أخذها إلى حيث كنت أخطط منذ ثواني في خيالي عن مقابلتنا.
أنا: آسف لاكون عطلتك. حاسس إنك مستعجلة. سعيد أني شفتك .. يلا .. باي!
همهمت بالكلام سريعًا دونما أدري إن كانت قد سمعته واستوعبته أم لا.
لوحت لها بيدي بعد أن تركت يدها، وتركتها.
رغم ملاحظتي أنها كانت مترددة في المُضي قُدماً في طريقها. ورغم إحساسي أنها أيضًا تشعر بما أشعر وتريد البقاء معي ولو لثوانٍ أكثر. إلا أنني سريعًا جرجرت قدميَّ وتركتها.
لم ألتفت لدقائق خلفي وأنا أسير في اتجاهي المقرر. قلبي انفطر. عيناي ترقرقتا بالدموع، صرخت بداخلي “لييييه، لييييييييه؟”
فجأة ما أطاعتني أَرْجُلِي وتوقفت. التفت للوراء علني أراها ثانيةً. فكرت في العودة إليها. خطوت بضع خطوات للخلف ونظري شاخصًا إلى الأفق البعيد. فكرت في الجري عائدًا لكي أعلن لها اعتذاري. وقفت تائهًا دون أن أدري ماذا أفعل.
استمررت واقفًا لدقائق، ثم سألت نفسي: وماذا بعد؟
متشحًا بالسواد استكان قلبي. عدت أدراجي أُكمل في طريقي حتى وصلت إلى باب المحطة. وضعت حقيبتيَّ على “سير” جهاز الفحص ودخلت. استلمتهما من الناحية الأخرى. خطوت على رصيف المحطة في نفس موعد دخول القطار على الرصيف. توقفت وتوقف القطار فركبته. جلست على أقرب مقعد واضعًا حقيبتي على ركبتيَّ. أخرجت جهاز اللاب توب ووضعته على حِجْرِي، وكتبت:
“على الرغم من حُلمي وأملي بأن أراها. وترتيبي بما سأفعله حينها. إلا أنها قد جاءت … على غير موعد”.
الكاتب/
أسامة الأديب
اقرأ أيضًا
أضواء على الطريق … (قصة لأسامة الأديب)
إشارة مُرور… (قصة لأسامة الأديب)
أُنْسِــــــــــــــــي ….(قصة قصيرة بقلم/أسامة الأديب)