ارتبط مفهوم الحقيقة عند اليونان بعدّة أسماء و مدارس منها المدرسة السفسطائية ، بالإضافة إلى سقراط أفلاطون و أرسطو الذين حاولوا جاهدين لإرساء أسس الفكر الفلسفي من خلال مجموع المعارف و الأفكار التي سنسردها لاحقا .
أ/ـ مفهوم الحقيقة عند السفسطائيين :
عرف الفكر السفسطائي مجهودات عديدة في مجال الفكر و المعرفة ، حيث حاول مجموعة من الفلاسفة وضع أسس خاصة بمدرستهم التي عرفت دعائم متنوعة في مجال الخطابة و المحاججة ( و كان اسم ” سوفيست ” يدل في الأصل على المعلم في أي فرع كان من العلوم و الصناعات و بنوع خاص على معلم البيان ، ثم الرجل الحكيم ) .
كانت بداية السفسطائيين كفرقة مثقفة تُجيد الخطابة و أساليب المحاججة من أجل استقطاب الجمهور في النصف لثاني من القذرن الخامس و لفظة ” السٌّوفيست ” هي اختصار لكلمة ” السفسطائي ” و التي تعني المعلم أو الرجل الحك ( فلم يجد السفسطائيون مبررا للتمييز بين المعرفة الحقيقية أو العقلية و المعرفة الزائفة أو الحسية وخاصة أن الفلاسفة قد إختلفوا في الحقيقة و طبيعتها والسفسطائيون وجدوا أن عالم العقل ليس أصدق من عالم الحس و قالوا أنه إذا انعدمت الحقيقة المطلقة من عالم الحس فلابد أن تنعدم من عالم العقل كذلك .
فأصبحت غاية التّفلسف و التفكير عندهم هي الإنتصار على الآخر بالإعتماد على ” فن الإقناع و الإغراء “. و بالتالي أصبحت قيمة المعرفة تقاس بمقدار منفعتها في الدفاع عن قضية ما ) . والدارس للفكر السفسطائي يدرك أنهم يتخذون من الحواس أساسا لمعارفهم والغاية من تفكيرهم هو الإقناع و الإغراء من خلال تمرّسهم لفن الخطابة و المحاججة كوسيلة لبلوغ حقيقة نسبية لا وجود للمطلق فيها .
و من أهم الفلاسفة المؤسسين للفكر السفسطائي نجد :
1ـ بروتاجوراس Protagoras ( 480 ـ 410 ق.م ) :
يعتبر بروتاجوراس واحد من أهم معلمي المدرسة السفسطائية ، إذ ينفي الحقيقة الموضوعية و المطلقة
( فمحور نظريته المعرفية ما قاله في عبارته الشهيرة ” الإنسان مقياس كل شيء ” . و بالتالي إنكار وجود الحقيقة الموضوعية ذلك لأن كل ما يبدو للفرد حقيقي بالنسبة له و لا و جود لمعيار ثابت يمكن الرجوع إليه لتصحيح المعرفة . فإحساسات الإنسان تختلف دائما حسب حالاته )
فمن خلال مقولة ” الإنسان مقياس كل شيء ” فهو يؤسس لما هو نسبي بأعتبار أن المحسوسات ذاتها في تغير مستمر . و في هذا النسق يقول
( ليس هناك خطأ بلمستحيل وجود خطأ ، فكلما تراه صواب لك،بللفظتا الخطأ والصواب لامعنىلها . فليس هناك شيء يسمى حقا في ذاته أو في الواقع أو نحوى ذلك )
و هذا دليل آخر يثبت به بروتاجوراس مفهوم الحقيقة في نظريته ، إذ أن الخطأ و الصواب يختلفان من شخض إلى آخر ، فما أراه أنا حقٌّ ليس بالضرورة أن يكون حقا للآخر و العكس .
2ـ جورجياس Georgias ( 483 ـ 375 ق.م ) :
هو الآخر يعتبر واحد من أهم معلمي المدرسة السفسطائية بجوار بروتاجوراس ، إذ اشتهر بكتابه ” حول الطّبيعة أو اللاوجود ” تتلخص نظريته في المعرفة في قوله الشّهير
( لا شيء يوجد ، و إذا وجد لا يمكن معرفته ، و إذا أمكن معرفته فلا يمكن نقله للآخرين )
هذا التناقض الجلي يثبت أن المعرفة عند السفسطائيين الحس لا العقل. والحواس متغيرة تختلف بإختلاف الأشخاص نظر لتغير أحوالهم العقلية و النفسية . الأمر الذي يقتضي تذبذب المقياس ألا و هو ” الحواس ” يؤدي إلى تذبذب الحقيقة إذن فلا حقيقة .
إذن إن الحقيقة في المنظور السفسطائي أخذت أبعادا متعددة و إن إختلفوا في الفروع إلاّ أنهم اجتمعوا في الأصول ، حيث إتفقوا أن الحواس هي مصدرا للحقيقة ، و إتجهوا أيضا إلى الجانب الإنساني و بالتالي معارفنا تخضع لحكم النسبية و التغيير و عدم الثبات ، كما جسدوا مفهوم الحقيقة في ” فن الخطابة و الجدل و المحاججة و فن الإقناع و الإغراء معا ”
ب/ـ مفهوم الحقيقة عند سقراط ، أفلاطون ، أرسطو :
القطيعة المعرفية التي أحدثها السفسطائيون بالنسبة لما قبلهم مهّدت الطريق للذين جاءوا بعدهم تمثلت في دخول الإنسان في تفكير الفلاسفة اليونانيين فوق الطبيعة ، و أخذت الحقيقة فروع أخرى اختلفت عن سابقتها ، ففيما تمثل مفهوم الحقيقة عند المثلث اليوناني الشهير ؟
1ـ سقراط Socrates ( 469 ـ 399 ق.م ) :
أراد سقراط البحث في طرق الوصول إلى المعرفة تبعا لجوهر الفكرة الرّئيسية في فلسفته و هي أن المعرفة هي الوصول إلى ماهيات الأشياء تبعا للمنهج الديالكتيكي
( فكان له مرحلتان التّهكم و التوليد . ففي الأولى كان يتصنع الجهل و يتظاهر التّسليم بأقوال محدثيه . ثم يلقي الأسئلة و يعرض الشكوك بحيث ينتقل من أقوالهم إلى أقوال لازمة منها لكنهم لايسلمونها فيوقعهم في التناقض . وينتقل إلى المرحلة الثانية فيساعد محدّثيه بالأسئلة و الإعتراضات مرتبة ترتيبا على الوصول إلى الحقيقة التي أقروا أنهم يجهلونها فيصلون إليها و هم لا يشعرون و يحسبون أنهم استكشفوها بأنفسهم و هذا هو التوليد أي استخراج الحق من النفس )
وفي هذا توضيح للمنهج الذي اتبعه سقراط في نظرية المعرفة عنده . فإعتمد على التّهكم أي إقراره بالجهل حتى يوقع بخصمه في التناقض . في المقابل يأتي التوليد الذي قال فيه سقراط أنه يحترف صناعة أمه إلا أنه يولِّد نفوس الرجال مثلما كانت أمه تولّد النساء ،
( ولكل شيء طبيعة أو ماهية هي حقيقة يكشفها العقل وراء الأغراض المحسوسة و يعبر عنها بالحد ، وأن غاية العلم إدراك الماهيات أي تكوين معانٍ تامة الحد ، و يرد كل جدل إلى الحد و الماهية فيسأل ما الخير و ما الشر ؟ و ما العدالة و ما الظلم ؟ و هكذا اجتهد في حدّ الألفاظ و المعاني حدّا جامعا مانعا )
وهنا يظهر الفرق الشاسع بين سقراط و السفسطائيين ، حيث وضع سقراط الحدود حتى لا تشترك بين الألفاظ و تبهم المعاني فيمنع الخلط و المغالطة .
/ـ أفلاطون PlaTo ( 428 ـ 348 ق.م ) :
قد إشتهر أفلاطون بنظرية المثل ، و لأنه رائد المثالية في تاريخ الفكر الفلسفي فهو يرجع مصدر كل معارفنا للعقل رافضا بذلك أي صلة للحواس بالمعرفة إذ يقول
( إن كل موجود جوهري صورة مجردة في عالم الإله ، و إنها لا تندثر و لا تفسد و لكنها باقية ، و إن الذي يندثر و يفسد إنما هو الموجودات المادية الطبيعية ) .
والمقصد من نظرية أفلاطون المثالية هو أن لكل فرد صورة جوهرية مجرّدة في عالم الإله لا تندثر و لا تُفنى . وإنما تندثر صورتها الموجودة والمطابقة للواقع الموجودة في عالم الحسوسات و الماديات. وهذا العالم يتميّز بالكمال و المطلقية و الخير الأسمى مصدرها الأبدي العقل. في المقابل يرفض أي صلة للحس بالحقيقة المطلقة. ( فالإحساس لا يصلح أن يكون سبيلا للمعرفة الحقيقية. كما أن المحسوسات لا تصلح أن تكون موضوعا لها و ذلك أن الحس يدرك عوارض الأجسام و أشباحها فضلا على أنه لا يقدم لنا إلا بعض الصور ). فأفلاطون يؤكد أن الإدراك العقلي للأشياء هو مصدرا للمعرفة الحقيقية على عكس الحس الذي لا يرقى لمكانة العقل ، بالإضافة إلى أنه إعتمد ” الجدل ” كمنهج لتحصيل المعرفة إذ يرى
( أن للجدل طريقين طريق صاعد يهدف للوصول من خلال الكثرة المحسوسة إلى الوحدة المعقولة أو يصعد من المعقولات المتعددة إلى أعلاها مرتبة )
إذ يضرب في هذا الطريق مثال الفيلسوف الذي يصعد من إدراكه للجمال الجزئي المحسوس إلى الجمال الأعم حتى يصل للجمال الكامل في ذاته ( أما الطريق الآخر للديالكتيك فهو الطريق الهابط لأن الفيلسوف بعد أن يُدرك الوجود الأعم أو أعلى الأجناس يهبط إلى الأنواع التي تتدرج تحته و له أن يسير في هذا الهبوط على منهج التحليل أو بإستخدام القسمة الثنائية المستنيرة بحدس المثل ) ، و المقصود هنا هو نزول الفيلسوف من عالم المثل ” المعقول ” إلى العالم المحسوس ، فنظرية أفلاطون الجديدة في المعرفة ماهي إلاّ دلالة على قطيعة معرفية عن من سبقوه و أيضا طريقته الخاصة في صياغة الجدل و وضع نظم مختلفة للوصول إلى الحقائق المطلقة .
3/ـ أرسطو Aristotle ( 384 ـ 322 ق.م ) :
من المعرف على أرسطو أنه يختلف عن أفلاطون و لو كان أستاذه. فهو يتجاوزه و يقدم البديل. فأرسطو أعطى قيمة للحس و اعتمد على الحس و العقل معا في تشكيل الحقائق. فإتخذ من المنطق سبيلا لفلسفته. ( فالمنطق أي قوانين الفكر سُبل مأمونه تؤدي بنا إلى الحقيقة المنشودة بإنتقال الفكر من المقدمات إلى النتائج الصحيحة ، يقول أرسطو
” إن الإنسان مفطور بطبعه على طلب المعرفة و استطلاع العلم و الإدراك الحسي هو أول خطوة يخطوها في هذا الإتجاه … وثب إلى المرحلة الفكرية الثانية و هي التجربة ، أما المرتبة الأخيرة هي التأمل النظري في هذه العلل ، و تلك هي المعرفة الكامنه ـ الفلسفة ) .
إن المنطق في نظر أرسطو هو الآلة المحركة للفكر و إعتصام الذهن من الوقوع في الخطأ . إذ يؤدي إلى بلوغ الحقيقة المنشودة بالإنتقال من المقدمات إلى النتائج دون إلغاء دور التجربة الحسية من ذلك. لكن و هذا تبقى مجرد علما ناقصا لا يكملها إلا التأمل النظري الذي يعتبره الحقيقة الكاملة ( فهو يُقرّ بوضوح بالإستقراء و معظم ملاحظاته على الإستقراء دقيقة و نفّاذة ، لكنه لم يتخذ من الإستقراء علما و هو لم يضع بوضوح القوانين الأساسية للتفكير الإستقرائي ) ، إذ يمكن القول أن أرسطو إتّخذ من المنطق أساس مهما لحصر مفهوم الحقيقة عنده . إذ يعتبره الآلة التي من خلالها يتم تحصيل معارفنا و عصم أذهاننا من الخطأ. وهو المنطق الشّهير الذي أخذ حيّزا واسعا من الشّهرة إلى يومنا هذا ، بالإضافة إلى أنه مثله مثل فلاسفة اليونان الذين درسوا الوجود الإنساني من كل جوانبه إبتداءً من النفس إلى ما بعد الطبيعة .
أهم المصادر و المراجع :
يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانية
سمر سمير أنورمحمد ، الإنقطاعات المعرفية في الفكر الفلسفي اليوناني حتى عصر أرسطو
أميرة حلمي مطر ، الفلسفة اليونانية تاريخها و مشكلاتها
أحمد أمين ، قصة الفلسفة اليونانية
محمد فتحي عبد الله ، دراسات في الفلسفة اليونانية
الشيخ حسن محمد مكي العاملي ، المدخل إلى العلم و الفلسفة و الإلاهيات
حربي عباس عطيتو ، الفلسفة القديمة من الفكر الشرقي إلى الفلسفة اليونانية
ولتر ستيس ، تاريخ الفلسفة اليونانية
إقرأ أيضاً
الفيلسوف ابن رشد آخر فلاسفة العرب
2 تعليقان
الحقيقة في الفلسفة هو مطابقة التصور أو الحكم للواقع، أي تطابق الفكر مع الأشياء، أو تطابق المعرفة مع موضوع المعرفة (كَنْت). وقد تطلق الحقيقة على الشيء الثابت قطعا و يقينا ، كالقول: «هذه الشهادة مطابقة للحقيقة»، أو «الحقيقة التاريخية».
بالنسبة للفلسفة الكلاسيكية ، يعرِّف أرسطو الحقيقة على أنها “إعلان ماهية هذه الحقيقة ، وما هو غير ذلك ، صحيح”. يبدو أن هذا واضح ومباشر ، لكن من المهم إدراك أنه ليس كذلك. تجمع الصيغة بين ثلاثة افتراضات فريدة من نوعها وليست بأي حال من الأحوال واضحة أو غير مثيرة للجدل ، وهي افتراضات تصبح حاسمة في مهنة الحقيقة الفلسفية.