في الأيام الأخيرة للسنة، والتي تصادف أعياد الميلاد، وبالرغم من شدّة الحرب في الموصل، فإن عائلة حامد المكوّنةِ منهُ، ومن زوجتهِ جميلة، وبناتهِ سُرى التي تبلغُ من العمرِ أربع سنوات، ومها التي تبلغ السابعة، وابنه الأكبر أدهم ذو الثالثة عشر عامًا، يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح. وجالسٌ معهم ابن عمّ حامد، عمّار، حيث كانَ يحملُ بين يديهِ مسبحةً؛ لأنهُ يُعرف بالتزامهِ الديني ولحيتهِ الطويلة.. كما وقد كان غير راضٍ عن الاحتفال هذا
– استغفر ربكَ يا حامد، إن هذا لشركٌ بالله!
التفت حامد إليه وقال:
– أيَّ شركٍ تقول، إنهم أطفالٌ ويلعبون ويحتفلون لسعادتهم، لا أرى المعصية في هذا الأمر
– لا يا حامد، بل هو معصية عظيمة، ونحنُ في أوقات حربٍ جائرة، فبدل أن نصلي ونستغفر ربنا قبل أن نموت في أية لحظة، نحتفل؟
– وماذا عسانا نفعل في هذا الوضع، اتركهم يلعبون يا رجل
– لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.. اسألُ الله أن يهديك
وبابتسامةٍ من حامد:
– اللهم آمين.
سكتَ عمّار قليلًا، ثم قال:
– لقد أتيتكَ لأعيد نصيحتي لكَ، ودعوتكَ لطريق الحق والإسلام
لم يجبه حامد وبقي ساكتًا، وعلامات الانزعاج باديةً على وجههِ. لكنَّ ذلكَ لم يمنع عمّار من تكملة كلامهِ:
– بقي أيامٌ قليلة لرجوعنا للجانب الأيمن، وقد استطعتُ هداية بعض الشباب لنصرة الإسلام والأمير.. إن انضمامك للدولة الإسلامية هو نصرٌ بحد ذاتهِ، فكيف إذ رزقك الله الشهادة وأنتَ على طريق الحق؟
لم يستطع حامد السكوت أكثر، ولم يفكّر بتبعية كلامهِ:
– أي حقٍ هذا تدّعوه؟ وأيّ نصرٍ تقولوه؟ وأي إسلامٍ تمثلوه؟ أنتم تقتلونَ الأبرياء بدمٍ بارد، وتغتصبون النساء والقاصرات، وتقولون إسلام؟ هل تعرفون تبعيات هذهِ الحرب؟
بقي عمّار ساكنًا مندهشًا، ثم قال بصوتٍ خافت (اما النصر أو الشهادة). ضحكَ حامد، ومن ثمَّ تغيرت ملامحهُ لتكون جدّيةً أكثر (الكثير ممن يتغنّون بالحرب ويدفعون للقتال، لا يعرفون طريق الجبهة أين! ولا يغرّنكم ما يزرعوه في عقولكم من جزاءٍ وثواب).
ترخّص عمّار وخرج من البيت غاضبًا. وبقي حامد يلعبُ مع أطفالهِ بكل سعادةٍ وفرح، فلم يتبقَ سوى يومين على ليلة رأس السنة. طلبتْ منه سُرى أن يلبسَ قبّعة بابا نويل، واللحية المستعارة الخاصّةِ به، فلم يرفض حامد هذا الطلب من أعز بناتهِ وامتثل له. وبدأ باللعبِ بينهم وقدّ أدخلَ زوجتهِ جميلة للعبِ أيضاً. كانت جميلة هذهِ اسمٌ على مُسمّى، سمراء البشرة، شعرها بُنّي مجعّد، سوداء العينين، طفولية الملامح والمبسم. تزوجها عن حب، وكانت له كلّ شيءٍ يمكن أن يكون، يلقي حملهُ جانبًا عند رؤيتها، وينسى كل متاعب الحياة عند سماع صوتها.
نام حامد من التعب، ونامت على يده اليسرى مها، وعلى اليمنى يسرى، وبقربهِ جميلة، وفي زاوية الغرفة نام أدهم.. لم تكن لديهم سوى غرفة واحدة، وحمّام، وطبّاخ صغير بالقرب من الباب في الخارج، فهذا كلّ ما يملكوه بعد نزوحهم للجانب الأيسر وقد أُحتِلَ من قِبل التنظيم الإرهابي بعد أيام.
كان استغراقهم في النوم عميقًا إلى حدِّ منعهم من سماع دويّ الطائرات إلّا في آخرها، لكن الأوان قد فات، فعند اللحظة التي فتح بها حامد عينيهِ سقط صاروخ قريب جدًا من غرفتهم، أدى ذلك لهدم الغرفة من ناحيتها الأمامية، وسقوط ركام الغرفة عليهمِ. الغريب في الأمر أنه لم يسمع أي صوتٍ لعائلتهِ، لا صوت صراخ ولا بكاء ولا أيةِ صوت! عند انزياح الغبار، أحسَ بشيءٍ قد بلّلَ قميصهُ ولحيته، فانتبه لوجود ثقلٍ على صدرهِ، لقد كانت سُرى.. وفوقها صخرةٌ كبيرة تسببت في مقتلها. وقد عرفها على الرغم من التراب الذي أشحبَ وجهها، والدماء التي غطّتها. يبدو أنها قد نامت على صدرهِ مثل كلِّ مرة، لكن هذهِ المرة كانت الأخيرة، وقد ا نقذتهُ بها. على الرغم من الفجيعةِ هذهِ، بقي هادئًا والتفت ليتفقّد ما تبقى من عائلتهِ، ويبدو أنه لم يتبقَ الكثير، وجّه نظرهُ ليبحث عن جميلة، فلم يرها، فوضعهِ وهو نائم على ظهرهِ وسُرى فوقهُ والصخرةُ من فوقها يمنعهُ من الرؤية. أبعد الصخرة واخذ سُرى -رغم موتها- لحضنهِ ووقف، لكنّه سرعان ما سقط، اكتشف أن قدمه اليسرى قد انجرحتْ جرحًا بليغًا، ومع تقطّع قلبهُ من الألم ودموعه التي تسقط، فقد مزّق قميص سُرى بيدين راجفتين وشدّ بهِ قدمه. واخذها لحضنهِ ووقف بصعوبة رغم الألم، وبقي يبكي بصوتٍ مسموع وهو يبحث عن جميلة. مشي خطوتين فداس على شيءٍ ليّن ورطب، ابعد قدمهُ نظر لها فعرفها، إنها يد جميلة!! سقطَ على ركبتيهِ ووضع سُرى جانبًا، مسكَ شعرهُ بشدّة وقال ودموعه تنهمر بغزارة (يا ربي! هي ليست ميتة اليس كذلك؟ يا ربي خذ كل ما أحب منّي ولكن اترك لي جميلة، وان اخذتها فخذني معها يا الله). حاولَ أن يستعيد رباطة جأشهِ فلم يتمكن منها، تقدم ليزيل الركام عن جميلة، ابعدهُ عنها، فوجدها كالملاك نائمة ومها في حضنها، والتراب يغطّيهما، والسيخ الحديدي قدّ اخترق قفصها الصدري، وصخرةٌ كبيرة كانت كافيةً لقتل مها في مكانها فورًا.. لم يصدّق حامد ما رآه، فقبل ساعات كانوا نائمين كلهم سويةً! صرخَ حامد صرخةً تعدّى صداها في كل مكان. كان يتمنى عند رؤية العوائل المفجوعة بفقدان احبتهم، يتمنى ألا يتكرر هذا الأمر معه، وأن يموت قبل رؤيتهِ، لكنه الآن قد شهده.. دون أحدٍ يشكو له، فها هي سُرى ميتة بين يديهِ، وجميلة قد اخترق السيخ مكان حبها لهُ، ومها تهشم رأسها تحت الصخور. هذهِ هي الحرب، تأخذ مننا أعز ما نملك، وتتركنا ضحايا لموت احبتنا، تسرقهم بسرعة دون أن تتيح لنا لحظةً لوداعهم.
سمعَ صوت أدهم وهو يسعل في زاوية الغرفة، ولم يطله الركام سوى يدهُ التي آذاها. نظر له حامد بنظرةٍ يائسة، وبقي لديه شيءٌ من الأمل الضئيل، تقدم أدهم نحو أباه، وعانقه باكيًا، بعدما رآه من موتٍ مخيف لأمهِ وأخواته. وبينما هم متعانقان ويبكيان، سمعا دويّ الطائرات ثانيةً، فقاما على عجلٍ، ونظر حامد نظرةً أخيرة لجميلة، فلربما لن تتاح له نظرة أخرى بعد الغارة القادمة.
تقدم أدهم على أبيه وركض أمامهُ، وتبعهُ حامد متأخرًا، وعندما خرجَ وجد أمامهُ شخصًا مرتديًا لزي ارهابيو داعش، وبيدهِ سلاح موجه نحو حامد، الذي بقي واقفًا مستمّرًا في مكانهِ، ومما زاد دهشتهُ أكثر، إن ابن عمهِ عمّار هو من يريد قتله، الذي نظر بكل حقد صوب حامد وقال (أن قتلكَ نصرٌ للدولة الإسلامية!) وما إن وضع اصبعه على الزناد حتى توجّهت صخرة لرأسهِ قد رماها عليهِ أدهم، مما دفعَ عمّار لإطلاق النار عليهِ، وبينما أطلقَ، ركضَ حامد نحوه وأسقطهُ أرضًا، وبقي يوجه له اللكمات بشكل هستيري حتى حطّم وجهه حرفيًا، ولم ينتبه حتى سَكِن عمّار عن الحركة، قام من فوقهِ، وأخذ السكين الذي كان في جيبهِ وطعنهُ في قلبه، وبعدها توجهَ لأدهم وحملهُ بين يديه، فالرصاصة العنيفة التي اخترقت صدره الترف لم يتحملها، وفقد حياتهُ بين يديّ أبيه، غادر باكيًا، دموعهُ تجري على خدّيه الناعمتين المتربتين. لم يتمالك حامد نفسهُ وبكى بكاءً شديدًا، وخاطب أدهم وهو ينشجُ (لا تبكِ يا صغيري، لا تبكِ يا روح أبيكَ وفؤاده، دموعك هذهِ تحرقني) مسح حامد دموع ابنه (لن تبكي بعد اليوم يا روحي.. ستنام رغدًا فرحًا). وبينما هو يكلّمهُ سقطت إحدى الغارات في مكانٍ ليس بالبعيد، فنام حامد على جسد ابنهِ ليحميهِ، أو ليموت.. فالموت كان هو أقصى درجات حلمهُ في هذهِ اللحظة!
انتهت الغارّة الجوية، دون سقوط أي شيءٍ قد يقتل حامد، وما إن استوعب ما يحدث، حتّى قام ليدفن عائلتهُ، التي كان بالأمس نائمًا بينهم.. والآن سينامون للأبد دون استيقاظ.
بعد الدفن، سقط حامد على قبر زوجتهِ جميلة، وبكى بكاءً شديدًا حتى اختنق، واحسّ إن دموعهُ قد جفّت، ولم يعد بوسعهِ افراغ حزنهِ بالبكاء! بل إن هذا الحزن سيقضي عليهِ من الداخل ولن يتركهُ يموت براحة.
عصر عينيهِ من الدمع كما تُعصر الملابس من الماء، ووقفَ أمام القبور ليقرأ عليها سورة الفاتحة.. وعندما طأطأ رأسهُ انتبه لملابسهِ، فلحية بابا نويل متدلّية من رقبتهِ على صدره، وتغيّر لونها للأحمر القاتم بفعلِ الدماء، ولا يعرفُ دماءُ من هذهِ، وقبّعتهُ كلها تراب.. لم يشأ أن ينزع اللحية والقبعةُ عنهُ، فما زالت كلمات سُرى بأمرهُ بكلِّ لطفٍ ألا ينزعها، ما زالت في عقلهِ تدور.
(رحمهم الله.. اسأل الله أن يخفف من حزنكَ ويواسيكَ). كان صوتًا أنثويًا، ولم يمنحهُ حامد الاهتمام. (آمين) ردَّ حامد بكل يأسٍ دون أن يلتفتَ لصاحبة الصوت، ومشي ليتبعَ أهل مدينتهِ الذين بدأوا بالتحضير للنزوح بعد ساعة أو أقل، وبعضهم من نزحَ مبكرًا.
وصلَ حامد لمكان تجمع العوائل، وجلسَ على صخرةٍ وأغمض عينيهِ.. (ألن تأخذ معكَ شيئًا؟). لم يُجبها حامد، وانزعج منها، فقد كانت تمشي وراءه مذ دفنه لعائلتهِ وحتى جلوسهِ على هذهِ الصخرة. (أنا آسفة.. لم أقصد ازعاجكَ، فأنا أيضاً لا أجدُ شيئًا يستحق أن آخذهُ معي). رفع حامد رأسهُ دون النظرِ إليها وأطلقَ تنهيدة ضجرٍ وقال (لا داعي للتأسف). لكن لفتهُ بياض قدميها، ولبسها الذي يكشفُ عن قدميها أسفل ركبتها بقليل، نظرَ إليها.. وأخذتهُ ابتسامتها البيضاء التي تحملُ بعض الصفار في أسنانها، اخذتهُ بعيدًا، لقد كانت شابةً تبلغُ الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين حسبما يوحي شكلها، بيضاءٌ جدًا، شعرها أحمرُ، عينيها زرقاء اللون، واكثرُ ما كان يميزها هو النمشُ المنتشر بكل بهاءٍ في جسدها، فقد كان واضحًا في ساعديها وأسفل بلعومها، وأوضح في وجنتيها، فقد كان مركزًا للجمالِ لديها. حدّقَ حامد فيها وبقيت هي تنظرُ إليهِ مع تعابير وجهٍ بشوشة على الرغم من عدمِ ابتسامِها. ثم فكّر حامد، كيفَ لهؤلاء الناس عدم الانتباه لها؟ فعلى الرغمِ من انشغالهم إلا أنها كانت ملفةً للنظر. (هل لي الجلوس بجانبكَ) قالتْ على الرغمِ من صِغَرِ المساحة المتبقية من الصخرة، إلا أن حامد لم يمانع، وقبلَ كلامها بالتنحي قليلًا لفسح المجال لها. جلستْ الى جانبهِ الأيسر، والتصقَ جسدها بجسدِ حامد، الذي تحسس قليلًا من وضعيةِ جلوسها، لكنهُ لم يحرك ساكنًا. وضعتْ جانب رأسها الأيمن على ركبتيها، واحاطت يداها حول قدميها. لم ينظر حامد لها، واستغرب منها، وخاف أن ينظروا الناس لهُ بنظرةٍ سيئة فقرر الابتعاد عنها. نظر اليها فلفتهُ جمال خصلات شعرها وهي مستلقية على مؤخر عنقها.. حم حمَ لينبهها بأنهُ سيقوم عنها، فقد كانت تميلُ عليهِ مستندةً على قدميهِ، انتبهت ونظرت لحامد بابتسامة وأومئت برأسها لهُ مُبينةً قبولها. ما إن وقفَ حامد حتّى قرروا أهل المدينةِ الذهاب.. وبداية رحلتهم نحو النزوح.
بعدما مَشوا أهل المدينة وخرجوا من الموصل، وصلوا لمفترقِ طرق، أما التوجه لشمال العراق، وأما التوجه لبغداد. طوال الطريق، كانت هذهِ البنتُ تمشي إلى جانبِ حامد، ولم تتكلم، وعلى الرغم من رغبة حامد بالتكلمِ معها، إلّا أنهُ أرادها هي من تبادر بالحديث.
– أين ذاهب؟
– لبغداد
– الن تذهبَ للشمال معنا؟
– لا
– ولماذا؟
لم يجب حامد وسكتَ، فأكملت:
– حسنًا. أعانك الله على ما انت بهِ، وعوضكَ خيرًا
– آمين
تقدّمت نحو حامد، ووضعت يدها على ساعدهُ كنوعٍ من المواساة وابتسمت، ومن ثَمَّ استدارت لتذهب.
– لم تقولي لي ما اسمكِ؟
ابتسمت ثانيةً ثم أجابت:
– آس.. آس يا حامد
بقي حامد في حالة سكون، بينما آس مشيّت وذهبت.. وهو يراقبُ شعرها الأحمر يتحركُ معَ نسمات الهواء.
في السيارات الكبيرة التي تنقلُ الركاب، جلس حامد بجانب النافذة، وبقي ينظرُ للطريقِ بكلِّ حزن، وبكى بصمتٍ وبقيت دموعهُ وحدها تجري. ووضع رأسهُ على النافذة.
كانَ يمشِ في أحد طرقِ الموصل، راكبًا دراجته النارية، يزيدُ في السرعةِ نمرةً تلو الأخرى، وعندما ثبِتَ على سرعةٍ ما، رأى من بعيدٍ امرأة، لكنهُ تجاهلها وبقي مركِزًا في طريقهِ. وصلَ بالقربِ من هذه المرأة، وبأجزاءٍ من الثانية، نادتهُ (حامد.. حامد) نظرَ لها نظرةً سريعة فعرفها، إنها آس! غفلَ حامد لكنهُ انتبه سريعًا لطريقهِ، وابتعد عن السيارة التي قد ضربها لولا سنتميتراتٍ بسيطة، خففَ من سرعتهِ لكنهُ لم يرجع نحو آس، فقد ظنَّ أنها لم تكن سوى طيف. أعاد الزيادة في السرعة لكنَ السيارة التي امامهُ قد خرجت عن المسار بحدّة وابتعدت، وقد كانت جميلة في منتصف الشارع، فزِعَ حامد لكنهُ لم يقف بسهولة بحكم السرعة التي كانت يمشيها، تجاوزها واستدار برأسهِ فرأى نظرات جميلة تتبعهُ وهو يبتعد، وبلمحةٍ من الزمن ضربتها سيارةٌ مسرعة! نظر حامد أمامهُ ليوقف دراجتهِ لكنهُ تفاجأ بسيارةٍ أخرى كبيرة مواجهةً له ولا تبعدُ عنهُ سوى أجزاء من الثانية. ضربتهُ السيارة. استيقظ حامد وقد ضُربَ رأسهُ بزجاج النافذة التي كان يتكئ عليها. كان كابوسًا مخيفًا لكنهُ ليس مخيفًا بقدرِ خوف حامد من تصديق حقيقة أن جميلة وعائلتهِ كلها قد ماتت، ودفنهم جميعًا في الموصل. تاركًا اياهم، لكن أكثر ما استرعى انتباههُ هو وجود آس في الحلم، هذا الأمر الذي لم يفهمهُ حامد إطلاقًا.
وصلَ لبغداد، وعاش فيها قرابة الشهرين، وبعدها، استطاع بمبلغٍ منهُ قد حولهُ لأحد اصدقاءهِ قبل الحرب تحسبًا لأي طارئ، استطاع أن يسافرَ خارج العراق. قبل السفر.. وبينما هو بالمطار، لمِحَ آس بشعرها الأحمر من بعيد، لكنهُ لم يتأكد منها، وبنفس الوقت لم يعرها أي اهتمامٍ يُذكر. سمعَ صوتًا في المطار يقول (على المسافرين إلى مطار اسطنبول التوجه نحو الطائرة).
جلسَ حامد في كرسيهِ، ورتّب أغراضهِ. وبينما هو ينظر أين سيضع قدميهِ، وضعَ شخصٌ ما يدهُ على كتف حامد (حامد؟ هذا أنتَ) رفع رأسهُ ونظر نظرة عادية دون أن يتفاجأ، ابتسم ابتسامة ميّتة ثم (أهلًا آس، كيفك؟) مدّت آس يدها لتصافحهُ تردد لكنهُ لم يشأ أن يحرجها، تصافحا وأخبرتهُ آس أنها على بعد كرسيين عنهُ، إن أرادَ شيئًا، فتشكرَ منها. ومن ثَمَّ توجّهت هي نحو كرسيها. بعدما انتهت محادثتهم، بقي جميع المسافرين ينظرون لحامد بغرابة، وبتعجّب، مما جعل حامد في شكٍّ من أمر آس، وريبة. بعدها، اتجهت نحوهُ مضيفة الطيران ثم قالت:
– هل هنالك خطب يا استاذ؟
– لا ليس هنالك شيء، لماذا؟
– نحن تهمنا صحة وراحة المسافرين لدينا، هل تريدني أن اجلب لكَ وسادة لتنام؟
-لا شكرًا لا أريد شيء
– حسنًا، إذا احتجت أي شيءٍ فقط انده لي.
استاء حامد من هذا الوضع، ولم يعرف ما سبب نظر الناس إليه، وسؤال المضيفة المُشكك أيضاً، لكنهُ كعادتهِ، لم يعطِ هذا الأمر الأهمية الكبيرة، لكن شكوكهُ نحو آس لم تهدأ.. ولم يعرف سببها.
طوال الرحلة لم يرَّ آس سوى مرةٍ واحدة، عندما ذهب للحمام، رآها نائمة على بعد كرسيين منهُ في نفس الصف. وعندما سألت المضيفة المسافرين عمّا يحتاجونهُ، قال لها بأن المسافرة التي تجلس خلفهُ على بعد كرسيين نائِمة وتحتاج بطانية لأنها قد تبرد. (لكن لا أحد يجلس خلفك بكرسيين استاذ!). استغرب حامد، وحاول أن ينظر دون القيام عن مجلسهِ، لكنهُ لم يستطيع، فاعتقد إن آس قد ذهبت للحمام (حسنًا شكرًا لكِ).
وصلَ للإسطنبول، وعند نزولهِ من الطائرة تهرّب من آس، ونزلَ قبلها، ولم تره ولم يرها. وهو نفسهُ طوال مدّة سكنه بتركيا، لم يرها سوى مرّة واحدة وقد تهرب منها، وولّى وجههُ عنها. انتقل بعدها لليونان، وبعدها لبريطانيا، وقضى هنالك أربعة سنين، لم ينسَ ولا لحظة فيها عائلتهُ، وقد كان يبكي في كل ليلة، يبكي يبكي حتى ينام. عملَ في هذهِ المدّة كنادل في مطعمٍ للجالية العربية، لكنهُ طُرِدَ بعدها، بسبب تكاسلهِ وتأخرهِ في النوم صباحًا. وذات يوم، بعد أن وصل بهِ البكاء لأقصى حدّته، نام ولم يشعر بنفسهِ، في الحلم، رأى سُرى، ابنتهُ ولكن كغير العادة، هو من ركضَ اليها، ولم تركض هي، أجلسها في حضنهِ وأخذ بتقبيلها وشمّها، قامت عن حضنه، وقالت له (أولم تَعِدُني بأن تبقي على اللحية والقبعة؟ وبعد أيام سيكون عيد الميلاد). وقبل أن يتكلم حامد، انقطع حلمه واستيقظ، واخذ في البكاء، وعندما سكتَ، تذكرَ أنه بإمكانهِ أن يعملَ عملًا مؤقتًا، وهو أن يمثل دور بابا نويل في الشارع.. فكّرَ في هذهِ الفكرة مليًا، واخرجَ قبعة ولحية بابا نويل وغسلهما، وذهب ليشتري الزي الكامل.
مثّل الدور جيدًا، لكنهُ كان مختلفًا.. حيثُ هو من كانَ يطلبُ الأمنيات من الناس، حيث أنه وقفَ مرّةً أمام شخصٍ من المارّة، وقال لهُ بصوتٍ منخفض (هل تعلم ماذا أتمنى في عيد الميلاد) لكن هذا الشخص لم يجبهُ، وأكمل طريقهُ، لكن حامد لم يقبل، ركضَ ورائه ومسكهُ من يدهِ، وصرخ فيه (أريد من اللعين بابا نويل أن يُرجع لي عائلتي، فهو السبب في مقتلهم). لكنهُ سرعان ما انتبه لوضعهِ، وعرفَ أنهُ صرخَ دون وعي، فترك يد الرجل وهو مُحرج، والناس ينظرون لهُ بريبةٍ، ورجعَ ليجلسَ في مكانه.
في اليوم التالي لم يخرج من بيتهِ نهائيًا، لكنهُ خرج في اليوم الذي بعدهُ.. وأصر على أن يلتزم بالعرض المعروف لبابا نويل، يعطي الحلوى للأطفال، ويُجلسهم بحضنهِ، ويستقبل امانيهم. وقد فعل، فمرَّ هذا اليوم بسلام، إلا أنهُ عندما كاد أن ينتهي من عرضه، رأى شابًا وشابة يمشون سويةً يمسكون بيد بعضهما، يبدو عليهما بأنهما حبيبين، فتوجهَ بسرعة نحو الشاب، وقف أمامهُ ثم همسَ له (عندما تملتك شيئًا لا تضمن بقائه ولو كانت نسبة تلاشيه منك ١%، عندما تمتلكهُ لا تكلم عنهُ أحدًا، اتفقنا؟). وبقي هذا الشاب حائرًا، وردَّ عليه (هل أنت مجنون).
هنالك، وعند تناوله العشاء، وضع اللقمة في فمهِ ثم قال بينه وبين نفسه (صدگ آني مخبل؟) وبقي ساكت واللقمة في فمهِ، دون أن يبتلعها، وينظرُ في الصحن بتمعن، ولكن بشرود، وقد رجعتْ لهُ ذكريات ليلة قتل عائلتهِ، وعندما تذكر وجه جميلة المُترب، سقطتْ دمعتهُ دون إرادة، وانتبه لما هو فيه عندما حرقتهُ حرارتها. فابتلع لقمتهُ بغصةٍ ودموعه تتساقط واحدةً تلو الأخرى. ذهب لسريرهِ ووضع ركبتيهِ بين يديه وبقي يأنُ (آني مخبل، آني مخبل، آني مخبل) وهكذا دواليك، ودموعه لم تتوقف عن الانهمار، حتى غلبهُ النوم.
دخل في حلمٍ كعادتهِ، كان جالسًا، واضعًا يده حول خصر جميلة، وهي تضعُ رأسها على كتفهِ، دون كلام. واقتربتْ نحوه سُرى ومها، لكن سُرى كانت تمسكُ ورقة في يدها، وجاءت لتريها لأبيها (بابا، انظر ماذا رسمتْ لي مها، لقد أحببتُ هذهِ الرسمة) ابتسم حامد وأخذ الرسمة منها، ونظر إليها، لكن سرعان ما دبّ شعورٌ لا يعرف ما هو في جسده. كانت مها قد رسمت بنتًا بيضاء البشرة، ذات شعرٍ أحمر، وبرغم أن الرسمة بمنتهى الطفولة والبراءة، لكنهُ ميّزها، إنها آس! أخذت جميلة الرسمة، ووضعتْ عليها نقاطًا صفراء اللون، بنفس الأماكن التي تمتلك بها آس النمش.. واعطتها لحامد، ويعتلو وجهها مشاعرٌ جامدة، حتى أنها لم تتبسم. وبقيت تنظرُ لحامد. سمع حامد طرقًا على الباب، فقام ليفتحهُ، ووجد آس أمامهُ بابتسامتها المعهودة (الن تذهبَ لتمثيل دور بابا نويل اليوم؟). استيقظ حامد مرعوبًا ولم يتحرك من مكانهِ وبقي ينظرُ للسقف، ويراجع في ذاكرتهِ هذا الحلم الغريب.
بقي أغلب الصباح ممدّدًا في سريرهِ، ولم يقمْ عنهُ، وقبل وقت الظهيرة، قرر الذهاب وتكملة عرضهُ عن بابا نويل.
كالعادة، بقي حامد يستقبل الأطفال، ولكنه شارد الذهن والحلمُ يدورُ في رأسهِ، حتىّ حلَّ وقتُ المساء، وبينما كان أحد الأطفال في حضنهِ يتمنى أمنية، سمعَ صوتًا يقول (مرحبًا بابا نويل، أرى أنكَ قد تغيّرتَ كثيرًا). رفع حامد رأسهُ ونظر، إنها آس بجسدها الأبيض الممشوق وشعرها الأحمر، والابتسامة التي أصبحتْ أجمل مما هي عليها. (أهلًا وسهلًا يا آس. ما الذي أتى بكِ إلى هنا). ضحكت آس وجلست بالقرب منهُ، وضعت خصلة شعرها وراء اذنها وقالت (أنني اتبعكَ وابحثُ عنكَ). ضحك حامد لكن آس كانت جادّةً في كلامها، ولم تبدِّ أي سخرية في نبرة صوتها. بقي الاثنان ساكتين دون كلام، وبعد دقائق افتتحا موضوعهما بكيفية خروج حامد من تركيا بمساعدة أحد الأصدقاء ووصولهِ إلى هنا، وبقيت الأحاديث تجرُّ بعضها، حتى حلَّ وقتٌ متأخر من الليل، وأصبحت الشوارع قليلة الناس. وضعت آس يدها -كعادتها- على ساعد حامد وقالت له:
– أتريدُ عصير الرمان؟
– ولِما عصير الرمان وحده؟
– ربما لأنك تحبهُ، أليس كذلك؟
– وما أدراكِ أنني أحبهُ؟
– أنا أعلمُ يا حامد أعلم. دعني الآن اجلبُ لكَ عصيرًا، أو ما رأيك أن تذهب معي لنشرب سويةً في هذا المشرب القريب؟
لم يتكلم حامد، لكنهُ وقفَ مُعبرًا عن رضاه ووقفت آس، كان المشرب يبعدُ أمتارًا قليلًا، لكنهُ في الشارع المقابل لهم. وعبّرَ حامد عن حرصهِ على اشيائهِ التي يقدّمُ بها العرض، فطمأنتهُ آس أن لا أحدًا سوف يأخذها. مشيا قليلًا فوضعت آس يدها في يد حامد دون أي سبب، ودون أن تمسك يده، فقط وضعت يدها، فقام هو بمسك يدها دون أن ينظر أحدهما للآخر. دخلا للمشرب وطلبا عصير الرمان، لكن آس اقترحت أن يأخذا العصير ويخرجان ليرجعا في مكانهما، فهي غير مرتاحةً لهذا المكان، لم يرفض حامد وقبل طلبها، أخذا عصير الرمان ورجعا، وعند جلوسهما، كان هنالكَ كلامٌ شعر حامد برغبة شديدة في قولهِ، رغم أنه لا يمت بصلة لما هم فيه. لكنهُ سكتَ. فبادرتهُ آس بالكلام وقالت (انطق بهِ يا حامد، تكلم فلا يمكنك أن تُخفي عنّي شيئًا). حاول حامد الكلام (أنا.. أنا.. أنا وحيد) وقبل أن يُكمل جملتهُ أحس حامد بحركةٍ ورائه، لقد كانوا شبانًا ثلاثة، تبدو عليهم ملامح السكر، وعدم وعيهم. وبدأوا بركل أغراض حامد الذي قام معترضًا عليهم، ودفع أحدهم، لكن الآخر باغتهُ بطعنة سكينٍ في خاصرته. هرب الشبّان وبقي حامد ساقطًا، نظر نحو آس التي تقدّمت نحوه دون أي مشاعر تعلو وجهها، وقالت (أنا أعرف ما أردتَ قولهُ: انت تحزنُ وحدك، وتغضبُ وحدك، لا أحد يهتم. تمشي هنا وهناك وحدك، تحسبُ خطواتك وحدك، تواجه الحياة وحيدًا، تواجهها، بكل ما أوتيت من وحدة. هذهِ الوحدة، هي من تقفُ الى جانبك فقط، هذهِ الوحدة السوداء.. لكنكَ مرغمٌ على سماعِ صراخها، هذا الصراخ الذي لطالما صمَّ أذني الفرحة فيك. الجميع يغضّون الطرف عن رؤيتك، يتجاهلون ويتجاهلون، ولا يكفون عن التجاهل. كلٌّ في دنياه غارق، لكن لا دنيا لك أنت، حتّى الدنيا تركتكَ متشبّثًا بطرفِ عباءتها. اقفز كالمجانين، واصرخ، اغضب، كسّر ما شئت. لن يعيرك أحدٌ اهتمامهُ. لا يُسمح لك حتى أن تقول بأنك وحيد.. لا يُسمحُ لكَ ذلكَ، حقًا لا يُسمح! وكيف تقولُ إنك وحيد، والوحدةُ هي أنيسةُ وحدتكَ نفسها؟ ابتسم وابتسم، حاول أن تصنعَ ابتسامةً حتى لو كانت مزيفة. واضحك بصوتٍ عالٍ وأزعجهم بصوتِ ضحكتكَ هذهِ، حاول أن تلفتَ انتباههم، أو لا.. لا تحاول أبدًا؛ فحتى لو لفتت انتباههم، لن يكونون لك ما تريد أنتَ، بل سيكونون ما يريدون هم).
سقطَ كوب عصير الرمان منها وامتزج بدمِ حامد، وتلاشت آس كدقائق الغبار، ولم يعدّ حامد يميز بين لون العصير ولون دمهِ، فقال (صدگ آني مخبل).
إقرأ أيضاً: