ما هو الغضب؟
كيف يمكن السيطرة على الغضب؟ الغضب هو أحد المشاعر. وقد تحدثنا في مقال سابق عن التحكم في الأحاسيس النفسية (المشاعر). وبيَّنا أن أحاسيس الجسد من الجوع والعطش والألم والتحرر والبرودة وغيرها؛ لا يمكن التحكم فيها في الغالب. بينما الأحاسيس النفسية تتنافى مع هذه الصفة. إذ يمكن على الأغلب أن يتم التحكم فيها بشكل كبير. وذكرنا أن السبب في هذا الفرق العظيم بين كلا النوعين؛ هو وجود منطقة بين الحَدَث والاستجابة في حالة الأحاسيس النفسية. وغيابُ هذه المنطقة بشكل – شبه كامل- في أحاسيس الجسد. وأن هذه المنطقة هي ما يُحدد نوعية الاستجابة. والتي تعتمد في الأساس على التحليل العقلي للحدث. وعرضه على ميزان المنطق. قبل إبداء استجابة معينة تجاهه. وقلنا أن السببَ في ذلك ربما يرجع إلى كون الأحاسيس الجسدية هي برمجة جسدية غير قابلة للتبديل. والهدف منها هو ضمان البقاء والسلامة للأبدان. والحماية من التلف والهلاك.
أما المشاعر فإنها تكافئ الأحاسيس الجسدية في كونها استجابةً أو ردَّ فعل لِحَدَثٍ ما. ولكنها تخالفها في كونها استجابةً غيرَ ثابتةٍ. فَعِندما يعترضك الحدث المثير للغضب؛ فإن بإمكانك أن توقف رد الفعل الطبيعي (الغضب) بل وتبديله إلى رد فعل مغاير أو حتى مُعاكس.
هل يمكن التحكم في الغضب؟
لقد زعم بعض علماء النفس قديما أن الإنسان لا يمكنه السيطرة على الغضب والتحكم في غضبه. ثم تبين لهم أن هذا غير صحيح. ويكفي في الرد على هذا الاعتقاد الخاطئ أن تسمعَ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصحا بعض أصحابه: لا تغضب. ووجه الدلالة في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرُ بشيء من عند نفسه. فهو لا يأمر إلا بوحي من الله. وأن الله لا يأمر إنسانا بما لا طاقةَ له به. بدليل قوله تعالى:
لا يُكلف الله نفسا إلا وسعها.
فما دامَ أن رسول الله قد أمر بعدم الغضب؛ فهذا دليل قطعي الدلالة على أن الأمر ممكن غيرُ مستحيل.
بيد أن حدوثَ مشاعر الغضب عند ورود الأمر المثير للغضب شيء طبيعي غير مُستَهجن. إنه ردة فعل شعورية كما ذكرنا. ولكن العبرة فيما يتبع ذلك الشعورَ الطبيعي. أعني؛ ثم ماذا بعد الغضب؟ هل ستتصرف بشكل أحمق؟ هل سوف يتغيب عقلك الواعي عن أداء عمله؟ ثم هل ستُجابِه الشخص الذي أغضبك بأقذع الشتائم وأبشع الألفاظ؟ أم سوف تُضمر له كيد السوء، آملا أن توقع به في شرك الحتف يوما ما؟!
خلاصة ما أعنيه؛ أن حدوث مشاعر الاستياء والضجر إثر التعرض لمثير ما؛ شيء طبيعي. ولكن ما يُحدد ضرر ذلك الشعورِ أو نفعَه؛ هو ما يشفعه من: التفكير والسلوك. والدليل على هذا المعنى؛ أن الله تعالى مدحَ المؤمنين في كتابه لا بأنهم لا يغضبون. وإنما مَدحهم في طريقة التعامل مع هذا الغضب فقال: وإذا ما غَضبوا هم يغفرون. إذن فقول النبي للرجل: لا تغضب.. ليس أمرا بالحجر على مشاعره، وليس دعوةً للتحكم فيما لا يملك التحكم فيه. وإنما هو دعوة إلى عدم جعل الغضب طريقا إلى سيل من التصرفات الخاطئة. فيكون المعنى: لا تغضب غضبا يُخرجك عن القسط المأمور به. إن ذلك يشبه قوله تعالى:
لا يجرمَنَّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا.
يمكنكم أن تُبغضوهم كما شئتم ولكن من غير المقبول قطعا أن تحملكم تلك الكراهية على ظلمهم.
ثُم ماذا بعد الغضب؟!
كان لعمر بن الخطاب قريبٌ له قُتل على يد أحد المشركين. ثم إن هذا المشرك دخل في الإسلام. فعَصمَ بذلك دمَه من سيوف المسلمين. ولكن ذلك لم يمنع عمرَ رضي الله عنه من أن يجد في نفسه على الرجل. وذات مرة، سأل الرجلُ عمرَ: هل تُبغضني؟ فقال عمر بكل صراحة وصدق: نعم! فقال الرجل: وهل يحملك ذلك على أن تظلمني؟ فقال عمر: لا. فقال الرجل: إذن إنما يبكي على الحُب النساء! يعني لن يضيرني عدم حبك لي، فإن النساء هنَّ من يحرصنَ على الحب.
والقصة أوردها المُبرد في كتابه (الكامل في اللغة والأدب)
هل فهمتَ ما أعنيه: أنتَ حُرٌّ في مشاعرك. لك كامل الحرية فيما تحسُّه. لكن بشرط واحد وهو ألا تضرَّ غيرَك أو بالأحرى نفسَك! بمعنى آخر؛ إن كان الغضب سيضر بك أو بالآخرين فينبغي ألا تغضب. أو بمعنى أكثرَ دقة؛ ألا تسمحَ لغضبك أن يفعل ذلك! نعم لا تدع مشاعر الغضب هي التي تقود سلوكياتك. وبما أن المشاعر هي وقود السلوك؛ فإن عليك أن تجعلها وقودا لسلوكٍ إيجابي. وتذكر هذا جيدا، بما أن المشاعر وقود؛ فإنها حتما سوف تتأجج في داخلك، حتى تُطفئ نارَها بفعل. وقد يكون الفعل إيجابيا أو سلبيا. وهنا يأتي دور قوة الإرادة والمنطق.
ولكي نزيد الأمر وضوحا؛ فاقرأ قوله تعالى:
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
عندما يحدث الموقف الذي يدعو إلى فوران الغضب؛ فإن مشاعر الاستياء تتصاعد. ودورك هنا سوف ينصب على شيء واحد.. ألا وهو: أن تكظم مشاعر الغضب. نعم لا تنفجر صائحا في وجه من أغضبك. لا تُهدده أو تتوعده أن تُنَكِّل به وأن تفعل به وتفعل. ولكن كن أكثر تحكما في نفسك، فلا تسمح لهذا الغضب أن يؤذيك أو يؤذي غيرَك. هذه هي القوة الحقيقية.. أن تستطيع التحكم في سلوكياتك وإن تعذر عليك التحكم في مشاعرك.
لقد علمتَ ما فعل إخوة يوسف به. حرموه من أبيه وحنانه. وألقوه في الجب. وأفجَعوا قلب أبيهم به. وجاءوا على قميصه بدم كذب. وفرقوا شملَه بأبيهِ لأربعينَ سنة. وكانوا سببا فيما حل بقلب أبيهم من الحزن الشديد. والذي أفقده نور البصر في النهاية. ثم إنهم التقوا يوسفَ وقد صار عزيزَ مصر وهم لا يعرفونه. فَماذا قالوا عن يوسف؟
(قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)!
. ألم تَكفِ هذه السنوات الطوال في إذابة ضغائن صدورهم؟! ألم يشف قلوبهم ويذهب بحسد أنفسهم أنهم ألقوه في جب سحيق لكي يعيش بعده أسيرا ما بقي له من العمر؟!
ثم انظر ماذا حكى القرآن الكريم عن استجابة يوسف لهذا الحدث المثير للغضب.. قال تعالى:
(فَأَسَرَّها يوسف في نفسه ولم يُبدها لهم. قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون).
والشاهد من ذلك أنه عليه سلم أسرَّ غضبه في نفسه ولم يبده لهم. ولكنه تحدث به مع نفسه. فقال أنتم والله شر مكانا والله أعلم أنكم كاذبون فيما رمَيتموني به من السرقة وما وصَفتموني به من الكذب الناجم عن حقدكم.
فإذا نجحتَ في هذه الخطوة.. واستطعتَ أن تكظم غيظَك.. فإن الخطوة التالية هي أن تُفرغ قلبك من مشاعر الغضب نفسها. إنك بكظم الغيظ تُحسن إلى من أساء إليك، وبعفوك عنه تحسن إلى نفسك! لأنك تسكب من قلبك مشاعر الحنق والاستياء فيرتاح فؤادك. ثم تأتي منزلة ثالثة لا يستطيعها كل الناس وهي قوله تعالى:
والله يحب المحسنين.
التعامل مع الغضب
ولكي تفهم تتابع هذه المراحل الثلاث في التعامل مع الغضب.. فاقرأ هذه القصة.. كان لأحد التابعين عبدٌ. وذات مرة أمره باحضار بعض الماء المغلي له كي يستخدمه في بعض أغراضه. فلما أحضر العبد الماء تعثر في شيء فسقط الماء المغلي من يده على طفل لهذا التابعي فمات! وعند ذلك هاجت في قلبه مشاعر الغضب الشديد، والتي إن أطلق لها العنان؛ فلن تدع ذلك العبد على قيد الحياة طرفةَ عين. ولكن قبل أن يهمَّ التابعي بالعبد أن يبادره بما يكره.. قال له العبد: والكاظمين الغيظ.. يعني: يا سيدي تذكر قول الله تعالى:
والكاظمين الغيظ.
فقال التابعي:
كظمت غيظي. فقال العبد: والعافين عن الناس. فقال: عفوتُ عنك. قال العبد: والله يحب المحسنين. قال: اذهب فأنت حر لوجه الله!
هذا هو علاج الغضب من ينابيع الوحي. إنك لن تثور على من أغضبك، بل ستكتم غيظك. ثم لن تكتفي بهذا؛ بل ستعفو عنه. ومعنى العفو؛ أنك لن تعاقبه على ما فعله أصلا فكأنه ما أساء إليك. ثم لن تكتفي بهذا؛ بل سوف تفعل له شيئا حسنا مقابل سيئته تجاهك! نعم فإن هو ظلمك بعض حقك؛ فربما تتصدق عليه بالمزيد من حقك. إن هو اغتابك فربما دعوتَ الله له.. وهكذا.
أضرار الغضب
إن أول خطوة بعد هذا الإرشاد السالف؛ أن تفهم مساوئ الغضب ومنافعه. ولكي نكون منصفين؛ ليس للغضب أي فائدة على الإطلاق. إن الانفعال السلبي الناجم عن الغضب لن يحل المشكلة على كل حال. ناهيك عن أنه سوف يزيدها ولابد سوءا. وها هي نبذة عن أضرار الغضب
- الغضب الحاد: يعني الذي يحدث سريعا ولوقت قصير يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم والسكر. قد يصاب صاحبه بجلطة دماغية أو قلبية أو نزيف دموي بالمخ نتيجة الانفعال المبالغ.
- الغضب المزمن: يؤدي إلى الاكتئاب (إذا مارس الشخص كظم الغيظ دون العفو عن الناس) تتصاعد المشاعر السيئة في نفسه شيئا بعد شيء حتى يشعر في النهاية بعجزه التام عن أخذ حقه مما يؤدي إلى الاكتئاب وشعوره بالعجز والوقوع فريسة للظلم الذي لا يستطيع دفعه. أو ربما تطور الأمر إلى الرغبة في الانتقام. والأخذ بالثأر. إن أقواما حملوا معهم شعور الغضب ولم يعفو عمن أساء إليهم حتى ورثوه لأبنائهم! وصار الولد ينشأ وهو يحمل فوق كاهليه مسئولية الثأر لأحد أقربائه الذين لم يَرهم ولو لمرة واحدة!
- غياب العقل يؤدي إلى التصرف بحماقة: هناك من يضرب ابنه بآلة حادة تودي بحياته أثناء نوبة الغضب. هناك من يثور على شريكه فيقتله بسبب الغضب.
- التصرف بحماقة قد يؤدي إلى خسارة الشخص الآخر إلى الأبد. عندما تنفعل على إنسان؛ فإنك تخرج من نفسك أسوء ما فيها. إن قلوب الناس لا تُكسب بالألفاظ النابية، والكلمات الجارحة. يقول الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
إن فعل الحسنة مع الشخص المسئ هو أقصر طريق لنزوعه عن خطئه واعترافه به. بل وهو أيسر سبيل إلى زرع الود والحب في قلبه تجاهك. يقول تعالى:
ادفَع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم
كيفية السيطرة على الغضب
- لا تتسرع في الاستجابة الخاطئة. أعطِ عقلَك الواعي فرصة للتدخل في الأمر. الغضب ينجم عن اشتعال العقل العاطفي. إنه العقل الذي لا يحتوي معلومات صحيحة أو منطق سديد. هو يحوي فقط مشاعر. وهو العقل الذي وصف العلماء دورَه بأنه يُهاجم أو يَهرُب. Fight or Flight. عند أول نزعة يبديها عقلك العاطفي للاشتعال، فحاول أن تُخمد نارَه على الفور. يمكنك قبل إبداء غيظك أن تعد من ١ إلى ١٠ أو أن تقولَ كلاما من قبيل:
فليعفوا وليصفحوا. أو واللهُ يحب المحسنين أو غيرها
- نفذ الوصايا التي أمر بها الله تعالى في قوله:
(والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) على التوالي. كما سبق وأوضَحنَا.
- تَعلم الاسترخاء. لأن الغضب يحدث أكثر لدى الأشخاص المتوترين. فمتى استطعتَ التخلصَ من التوتر وأتقنتَ الاسترخاء؛ فإن المواقفَ التافهة لن تثيرَ غضبك ويمكنك السيطرة على الغضب
- نم نوما كافيا وصحيا. لأن قلة النوم من أسباب التوتر. وسوف تؤدي إلى الانفجار عند التعرض لأول موقف يثير الغضب.
- فكر في الحلول وليس المشكلة بذاتها حتى تتمكن من السيطرة على الغضب. العقل العاطفي عندما يشتعل فإنه لا يعطيك مساحة للتفكير. كل ما يكون على ذهنك عندئذ هو أن تثورَ وتثأرَ لنفسك التي تعرضت للإساءة. ضع نفسك موضعَ الطرف الخصم. ربما تكتشف أنه مصيبٌ في إساءته. أو على الأقل ليست إساءته بهذه الدرجة من السوء.
- لا تحمل الأمور على محمل شخصي. لا تثأر لنفسك. لا تعط نفسك أكثر من حجمها
- تحدث مع الطرف الآخر بعقلانية. أخبره عن استيائِك من تصرفه ولكن بشيء من الحكمة واللين. سوف ينصاع لك الخصم رغما عنها إن هو رآك لا تواجه إساءتَه بالسوء.
- يمكنك التعبير عما يعتلج في صدرك دون التثريب واللوم. لا توجه إلى الطرف الآخر سهام النقد والتخطئة. بل أخبره عما تشعر به أنت، لا عما فعله هو. لا تُكثر من قول أنت فعلتَ وفعلت. ولكن ربما يناسبك أن تقولَ عوضا عن ذلك: أنا أشعر بكذا وكذا.
- اكسر حدة التوتر بالمزاحِ والفكاهة. كثيرا ما تكفي الإبتسامة أو إطلاق النكتة أو المزحة في إذابة أشد المواقف ضراوة. ربما يستحي الطرف المقابل من مدى لُطفك ورقتك فلا يستطيع إلا مجاراتَك في التلطف والرقة
- استقطع أوقاتا للراحة والترفيه. كما أسلفنا يعد التوتر العصبي والشد العاطفي هو الشرارة التي تضرم نيران الغضب. فلا ينبغي أن تضن على نفسك بالإجازات والراحات المستقطعة
- عندما تفشل جميع الطرق السالفة في علاج غضبك؛ فلا تتردد في أن تستشير مختصا. ولكني على يقين أن هذا لن يحدث.
إقرأ أيضاً:
كيف أتحكم في أعصابي عند الغضب؟
الغضب عند الأطفال وأهم اسبابه وأفضل طرق التعامل مع الطفل اثناء نوبة الغضب