النقائض فن شعري ، فيه ينظم شاعر قصيدة يفخر فيها بنفسه، وبأمجاد قبيلته، ويهجو فيها شاعرا آخرًا، طاعنا في عشيرته، فيتحداه الآخر ويرد عليه بقصيدة يناقض فيها ما ورد في القصيدة الأولى من معان وصور، وينظمها على وزنها وقافيتها، فالموضوعان الرئيسان فيها هما الفخر والهجاء، وأكثر معانيهما جاهلية، ولقد نشطت النقائض في العصر الأموي على ألسنة أشهر شعرائه: الأخطل، وجرير والفرزدق، وساعدت على انتشارها مجموعة من العوامل سنعرض لها في غير هذا الموضع.
من نقائض الفرزدق وجرير
دراسة النصين من كتاب المشوق :
ورد في كتاب المشوق نموذج لهذا الفن الشعري ، وقد جاءت القصيدة الأولى منسوبة لصاحبها الفرزدق مفاخرا بها خصمه جرير وهاجيا له ولقومه:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطــــــــــــول
بيتا بناه المليك وما بنــــــــــى حكم السماء فإنه لا ينقــــــل
بيتا زرارة محتب بفنائــــــــــــه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهــــم أبدا إذا عد الفعال الأفضــــــــل
الأكثرون إذا يعد حصاهــــــــم والأكرمون إذا يــعـــــــــد الأول
أحلامنا تزن الجبال رزانــــــــة وتخالنا جنا إذا ما نجهـــــــــــل
وكان رد جرير بقلب المعاني، والنظم على الوزن نفسه والروي نفسه، يقول:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
ولقد بنيت أخس بيت يبتنـــــــــــى فهدمت بيتكم بمثلي يذبــــــــــل
أحلامنا تزن الجبال رزانـــــــــــــــة ويفوق جاهلنا فعال الجهــــــــــــل
معطيات النصين :
يفخر الشاعر الفرزدق في أبياته بعشيرته، فيقول أن بيت عشيرته من أعز البيوت وأشرفها، والله تعالى الذي رفع السماء هو الذي رفع من قيمة وشأن نسب الفرزدق أيضا، ويقول أيضا: أن أجداده سادة ذوو مآثر ماجدة في السلم والحرب، وهم أصحاب عقول راجحة، ونفوس أبية.
ثم يتحول إلى هجاء جرير في عشيرته، ويزعم أنها لا تقوى على مزاحمة الآخرين في المجد والرفعة، وبهذا يفرغ من أبياته.
أما رد جرير فكان مناقضا للفرزدق، وذلك بهجائه والطعن في عشيرته ومنزلتها بين العشائر، زاعما أنها في الحضيض الأسفل، ثم ينتهي إلى الفخر بعشيرته ومناقبها في السلم والحرب.
والأمر الملاحظ هنا، أن معاني الفخر والهجاء في كلا النصين معان جاهلية، ولا نعتقد أنها مقصودة لذاتها بل هي وسيلة لإظهار براعة كل من الشاعرين في مناظرة الآخر، وإظهارا للمقدرة الفنية والموهبة الشعرية.
أناقش معطيات النصين:
استخدم الفرزدق التشبيه في قوله:
“وتخالنا جنا إذا ما نجهل”
ليبالغ في التعبير عن غضب رجال قبيلته، وحميتهم على أعدائهم، وكنى في فخره عن نسبه الرفيع بالبيت قوي الدعائم، وعما يتحلون به من عزة ووقار ورجاحة عقل بقوله:
“أحلامنا تزن الجبال رزانة”
وناقض جرير الفرزدق في صوره الفنية فقد عاب نسب الفرزدق، وكنى عن ضعفه بقوله:
“وبنى بناءك في الحضيض الأسفل” ،
ولقد اشترك الشاعران في التعبير عن الفخر بقولهما :
” الذي سمك السماء، أحلامنا تزن الجبال رزانة”
إلا أن الفرزدق أضفى على تفاخره سموا حين استخدم اسمي التفضيل : أعز ، وأطول.
والملاحظ أن كلا الشاعرين قد نال من صاحبه في الهجاء المقذع ، والذم المؤلم بما وظفه من الألفاظ والتراكيب ، خاصة حين استخدم جرير اسم التفضيل : الأسفل .
والملاحظ أيضا أن جرير قد أعرض عن الافتخار بأجداده ولم يفعل ذلك مثلما فعل نده وقرينه والسبب فيما نرى راجع إلى أن قوم جرير أقل شرفا ومجدا ومفاخرهم لا تكاد تذكر أمام قوم الفرزدق الشرفاء .
بناء النصين :
وظف الشاعران الجمل الخبرية ، لأن هدف كل منهما الإخبار عن مآثره التي يتفاخر بها، وعن المطاعن التي يوجهها لخصمه، وقد استعان كل منهما بأدوات التوكيد، ليبعد عن كلامه احتمال الشك ويوجب اليقين، والموضوعان الرئيسان في هذه النقيضة كما أشرنا هما الفخر والهجاء، ومن ثم غلب على النصين نمط الوصف لأنه المناسب لهما.
الاتساق والانسجام :
يمثل النصان شعر النقائض، وتعتمد النقيضة في وزنها الموسيقي على أصلين: التشابه في البحر الشعري، والتشابه في القافية، ونظم الشاعران القصيدتين على بحر الكامل ، ومفتاحه :
كمل الجمال من البحور الكامل *** متفاعلن متفاعلن متفاعل ،
والتزما في آخر أبياتها قافية تتكون من حرف الروي (اللام) والواو الناتجة عن إشباع حركة اللام (الضمة) في قصيدة الفرزدق ، والياء الممدودة الناتجة عن حركة اللام (الكسرة) في نقيضة جرير .
أجمل القول :
عرفنا فن النقائض وقلنا أنه فن شعري ، ينظم فيه الشاعر قصيدة مفتخرا بنفسه ومناقب قبيلته ويهجو فيها شاعرا آخر ، فيتحداه الشاعر الآخر ويرد عليه ما أورده في نصه ملتزما الوزن نفسه وحرف الروي كذلك، ولاحظنا أن الغرضان الخالصان في النقيضة هما الهجاء والفخر، فالمعاني جاهلية، والنصان متوازيان ومتكافئان ، فلم يغلب أحدهما الآخر ، ولو غلب أحدهما ، لما استمر الثاني في هذه المعركة الأدبية التي دامت قرابة أربعين سنة.
عوامل ازدهار فن النقائض :
لا يمكننا أن نرد أية ظاهرة إلى بضع عوامل أسهمت في بروزها ، فلكل ظاهرة عوامل تتشابك وتتضافر فيما بينها لتنبثق عنها ، وسنعمد نحن في حديثنا على الاقتصار على العوامل الأقوى والأظهر :
السياسة : فلقد كان لتشجيع خلفاء بني أمية على العصبية القبلية بغية إلهاء الناس من الخوض في شؤون السياسة عاملا قويا في نشوء هذا الفن وفنون أخرى مستحدثة أو شبه مستحدثة في هذا العصر.
نمو العقل العربي ومرانه على الحوار والجدل، وعلى المنافسة الأدبية : وهذا بتأثير الإسلام، فتأثيره في الأدب لم يكن فقط في الاقتباسات ونمو النثر وظهور بعض العلوم ، إنما كان أيضا من هذا الجانب .
حاجة المجتمع العربي إلى نوع من اللهو والتسلية يوفر المتعة له: وذلك بعد أن مزقت الحروب أوصاله، وزادت الفتن الداخلية والاضطرابات من مأساته .
إقرأ أيضًا
الرثاء و الهجاء في العصر الاموي
ملخص كتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني
الأدب العالمي وشخصية التاجر اليهودي
2 تعليقان
مقال رائع وأسلوب شيق في السرد.
أشكر لك وصفك الكريم ، وتشجيعك لي بكلامك الطيب ، تحياتي لك .