في أحايين كثيرة، نشعر بالإحباط والوحدة والغربة أو بالقهر والظلم. ونظل متمسكين بالصمود. ونحيا على أمل التقاط بعض السعادة من مصدر ما. ولا نسعى أبدا إلى الرحيل بعيدا أو الاختفاء عن أنظار من كانوا سببا في آلامنا.
لماذا “إني راحلة”؟
“إني راحلة” جملة مؤكدة بأداة التأكيد “إن”. وراحلة اسم فاعل مؤنث، من فعل رحل، يفيد الشروع في الفعل وتأكيد حدوثه وسيرورته، فمن هي الراحلة؟ ولماذا ومن أين ترحل وإلى أين؟
أمي قد عزمت على الرحيل وماذا يدعوني إلى البقاء في دنياكم تلك…….. وأنطلق هاربة إلى حيث لا تتطاولون علي بألسنتكم تاركة لكم جيفة تتلقى لعناتكم نيابة عني
هكذا استهل الكاتب يوسف السباعي فصله الأول من الرواية، والذي عنونه ب “ملحدة”. وهي كلمة مفردة، تدل على غربة الروح وتمرد الذات على معتقدات الآخر على المستوى النفسي. أما على المستوى الاجتماعي فهو وصف غير محمود وحكم جاهز وجائر ونبد من طرف مجتمع محافظ ومتدين. وهذا أكثر ما تعانيه مجتمعاتنا العربية الإسلامية. تضمّن هذا الفصل أيضا،
فإني أحس من الكتابة براحة المعترف وهدوء التائب المقر… أنا لا أخجل من اعترافي حتى أهمس به وجلة خائفة بل أطلقه بملء فمي لأعلن ببراءتي وأصيح بكم: إني مظلومة…مظلومة في الدنيا والآخرة… مظلومة حية وميتة.
يستعمل الكاتب ضمير المتكلم ويتدفق حبره ساردا ما يختلج الراوية من حواس، بأسلوب شاعري سهل وبسيط، ينفذ إلى القلوب وتهدأ له النفوس. ويتضح من البداية أنها قصة مأساوية درامية، تحكيها فتاة يائسة من العثور على سعادتها.
“لعلها لم تنعم بسعادة مثالية….. أو أي طريق في الحياة يعطي سعادة مثالية؟ كثيرون جدا لم يرتكبوا ما سموه خطيئة وما كانوا أسعد حالا..” .
تبدأ الراوية سرد قصتها من البداية في الفصل الثاني الموسوم ب”ميلاد جديد” لتتجلى لنا تفاصيل الحكاية الرومانسية للشابين أحمد وعايدة وهو ابن خالتها اليتيم.
ما القصة في رواية إني راحلة؟
تحاب الشابان أحمد وعايدة، ولكن المقاول الغني والد الفتاة، عارض زواجهما ومنعهما بحجة عدم الكفاءة المادية. فزوجها ممن ارتضى مكانته الاجتماعية والمادية من أصدقائه المترفين، دون النظر إلى أخلاقه، ودون احترام أو أدنى مبالاة لمشاعر ابنته الرقيقة. تكتشف التعيسة فيما بعد، خيانته لها وتبدأ ثورتها على والديها وكل محيطها ومجتمعها لتهرب مع حبيبها الذي -صدفة- يلاقيها به القدر، فتفرح قليلا وتعود إلى يأسها مرة أخرى، بعد وفاة حبيبها الذي صارع المرض. قررت كتابة رسالة لوالدتها ومن خلالها إلى المجتمع والعالم بأسره قبل وضع نهاية مفجعة لحياتها بلهيب النار الحارق إلى الهلاك.
اعتمدت رواية الكاتب المصري يوسف السباعي على قصة مألوفة في المجتمع المصري والعربي عموما، قصة مستهلكة ذات موضوع قديم، تناولتها الألسن والأقلام كثيرا، لكنها تميزت بحبكتها عبر 16 فصلا ولغتها الشاعرية النافذة والمؤثرة في النفوس والعقول. فلطالما شحذت الراوية تضامن القارئ واستعطفته واستجدت منه الإنصاف.
لم يخل أسلوب الكاتب القصصي والروائي والمسرحي أيضا، من الرمزية والتصوير الشائق لسرد متماسك منساب، يشد انتباه القارئ ومن خطاب بليغ يحمل رسالة للمتلقي.
استعمل السباعي تقنية المونولوك أو الحوار الداخلي لسبر أغوار نفس الراوية المعذبة، وتحفيزها على التعبير أكثر عما بدواخل مكوننها الجريح. فتراها تارة تسأل نفسها و تارة تجيب عليها وتارة تحكي و تشكي وتحلل وتبرر وتلوم وتعاتب، وتارة أخرى تدعو ربها. تصارع الأفكار والهواجس والمشاعر المتناقضة، من ضعف وقوة، وإصرار وتردد، وفرح وألم، ورغبة في السعادة واستسلام للموت. إنه الرحيل، الموت المختار، العذاب المرغوب. هانت الروح و هانت معها الحياة، فأصبح الموت في نظر عايدة الصادقة في حبها، والوفية لمشاعرها، مجرد رحيل لا غير.
أقحم الكاتب المصري يوسف السباعي الطبيعة في ختام الرواية، ليعبر عن رثائها لمآل عايدة المؤلم. ويعد هذا الاقحام نوعا من المبالغة، الهدف منها ايصال رسالته إلى الأفراد والمجتمعات، و كذلك إبراز حجم هذه الواقعة و هذا الظلم المتكرر للأنثى و المرأة عموما، راميا إلى تحسيس مثل هذه العقليات المتحجرة التي مازالت تؤثر سلبا على حياة الأجيال الصاعدة وتستبد برأيها و تفرض قراراتها دون شعور بالرأفة و دون رفق بالقلوب الحساسة النابضة بالحب. لذلك جعل الكاتب الطبيعة تنتحب بدل هذا الانسان المتسلط بأبوته أو اخوته او حتى متربص من متربصي المجتمع الذي يمثل رقابة و سلطة أخرى على الفرد.
معلومات عن الرواية
عدد صفحاتها 445 صفحة. صدرت الطبعة الثانية عن دار النشر مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1950. وقد عرضت مقدمتين، مقدمة الطبعة الأولى التي عبر فيها الكاتب عن حبه لكتابة القصص القصيرة، وعدم اكثراته للرواية و السرد ذي النفس الطويل. كتب كثيرا إلى كره الكتابة ثم عاد إليها بعدها ليكتب الرواية من إني راحلة و مقدمة الطبعة الثانية التي شكر فيها متتبعيه ومن عبروا عن إعجابهم بعمله الروائي، سواء عبر الرسائل أو الهاتف الذي قص قصته الطريفة مع معجبة لم تتملك نفسها بعد الانتهاء من قراءتها فهاتفته فورا من أجل أن تشكره ولم تعر اهتماما للوقت المتأخر من الليل.
2 تعليقان
رواية جميلة احببت اسلوبك في الكتابة و احببت ايضا الرواية
شكرا على نثرك هذه الورود بهذه المحطة فاطمة … لك كل الود