تقديم:
علم الأصوات واللغة.. يعتبر علم الأصوات أو الصوتيات (Phonétique) فرعا من فروع علم اللغة، يدرس الأصوات اللغوية من حيث مخارجها وصفاتها وإنتاجها. وقد عَرَضَ علماء اللغة في الدرس الصوتي إلى ثلاثة جوانب وطيدة الصلة في توليد الكلام بالبحث والدراسة، وهي: الجانب النطقي الفيسيولوجي، والجانب الأكوستيكي الفيزيائي، والجانب السمعي.
وقد نهجوا في دراستها والنظر فيها مناهج مختلفة حسب الأهداف التي يرنون إلى تحقيقها في أبحاثهم ودراساتهم؛ فنجم عن ذلك انقسام علم الأصوات إلى أقسام، وتفرّعه إلى فروع. فما هي أقسام الصوتيات؟ وكيف تتداخل فيما بينها في خدمة اللغة؟
إنّ الإجابة عن ذَيْنِك السؤالين تقتضي منّا عرض أقسام علم الأصوات أو فروعه عرضا مقتضبا، يتبعه فصل المقال في أوجه خدمة تلك الأقسام أو الفروع اللغةَ، إذ هنا تلوح بجلاء ثمرة العلم وفائدته.
أقسام علم الأصوات:
لقد تقرّر عندنا في مطلَع الموضوع أن علم الأصوات يهتمّ بدراسة الأصوات اللغوية البشرية من حيث المخارج والصفات والصدور من جهاز النطق، لكنّ علماء هذا الشأن سلكوا في ذلك مسالك متنوعة، واختصّوا بجانب معيّن في دراستهم؛ ممّا أفضى إلى تنوّع الصوتيات، فصار عندنا:
- علم الأصوات النطقي أو الفيسيولوجي أو الوظائفي الذي يُعْنَى بدراسة الصوت اللغوي من حيث مكان نطقه وطريقة إصداره.
- وعلم الأصوات الفيزيائي الذي يهتمّ ببيان خصائص الأصوات المادية أثناء انتقالها من المرسل/المتكلّم إلى المرسَل إليه/السامع، فيعرِضون لتردّد الصوت وسعة ذبذبته وطبيعة موجته وعلوّه ونوعه.
- وعلم الأصوات السمعي الذي يختصّ بالبحث في ميكانيزم جهاز السمع البشري والعملية السمعية التي يتمّ بها استقبال الصوت اللغوي وإدراكه وتحويله إلى رسائل مشفّرة عبر الأعصاب الحسية إلى الدماغ.
- وعلم الأصوات العام الذي يبحث في الأصوات اللغوية عامّة، من غير أن يربطها بلغة فعلية محدّدة.
- ويقابله علم الأصوات الخاص الذي يُولِي أهمية بالغة لأصوات لغة معيّنة، كالعربية مثلا، بالدراسة.
- وعلم الأصوات الآلي أو المعملي أو التجريبي الذي ينهج المنهج التجريبي في دراسة الأصوات اللغوية، بما يُشْبِهُ عمل علماء الأحياء والمادة في دراساتهم، كما يتوسّل بالآلات الإلكترونية لكشف خصائص الأصوات ونوعها وقوتها ونغمتها ونبرها، مثل: جهاز رسم الأطياف والحَنَك الاصطناعي، وقد يستعين أيضا ببرمجيات تحليل الأصوات.
- وعلم الأصوات المقارن الذي يسعى إلى توضيح أوجه الائتلاف والاختلاف بين أصوات اللغات.
- وعلم الأصوات المعياري أو الفرْضي الذي يصف أصوات لغة معلومة، كما يجب أن تُنْطَقَ لا كما ينطقها المتحدّثون بها، ليصل بهم إلى درجة من المثالية في التكلّم بتلك اللغة.
- وعلم الأصوات الوصفي الذي يدرس أصوات اللغة المستعملة في مدّة زمنية محدّدة دون أن يبيّن ما طرأ عليها من تغيّر أو تطوّر؛ لأنّ هذا من عمل
- علم الأصوات التاريخي الذي يبحث في مدى التغير والتطور الذي حدث لأصوات لغة ما عبر مراحلها التاريخية التي مرّت بها.
- وعلم الأصوات البحت أو الصِّرْف الذي يُعنى فقط بخواصّ الأصوات النطقية، فلا يتناول بحال من الأحوال تطوّرَها أو وظيفتها أو إدراكها من قِبَل المتلقي.
- وعلم الأصوات القطعية أو المقطعية الذي يبحث في الأصوات الصائتة والصامتة لا غير،
- عكس علم الأصوات فوق القطعية أو فوق المقطعية الذي يركّز في معالجة الصوت اللغوي على المعايير الفيزيائية، سمعيةً واستقباليةً، كالشدة والتوتر والمدّة الزمنية، كما يقف على ظواهر صوتية، كالنبر والنغمة والتنغيم والفاصلة والبدل الصوتي.
- وعلم الأصوات الوظيفي الذي يهتمّ بوظائف الأصوات، فيدرس فونيمات اللغة ويوزّعها إلى مجموعات تجمعها قواسم مشتركة، نافلةً على ذلك يبحث في البدائل الصوتية كذلك.
- وعلم أصوات عيوب النطق الذي يحاول الكشف عن عيوب النطق لدى الأفراد، محدّدا أسبابها، التي يمكن أن تُرَدَّ إلى ضَعْف القدرات العقلية أو مشاكل في جهاز النطق أو اضطرابات في الصوت بسبب انجراف مجراه أو ضعف القدرة السمعية أو عوامل نفسية انفعالية، ثم يتطلّع هذا العلم إلى وضع طرق علاجية لتلافي تلك العيوب.
كيفية تداخل تلك الأقسام في خدمة اللغة:
وإذا نظرنا إلى هذه الأقسام أو الفروع لعلم الأصوات نظرة شموليّة كليّة؛ أدركنا مدى تداخلها وتكاملها في خدمة اللغة خدمةً جليلةً، ذلك أنّ اللغة ما هي إلا سلسلة من الأصوات، ومن ثَمَّتَ، يعتبر علم الأصوات مدخلا أساسا في دراسة اللغة، فَقَبْلَ البحث في اللغة من حيث الصرف والنحو والدلالة، لابدّ أن نبحث في الصوت اللغوي نفسه؛ لأنّه بمثابة حجر الأساس في صَرْح اللغة. ألا ترى أنّ علماء اللغة بنوا كثيرا من آرائهم ومذاهبهم في قواعد الرسم والإملاء والعَروض والصرف والنحو والمعجم على النظر في الصوت اللغوي؟!
إنّنا لا يمكننا أن نمضي قُدُمًا في دراسة لغة ما دراسة علمية دون وصف أصواتها أو أنظمتها الصوتية، بدءًا بأصغر وحدة صوتية وانتهاءً عند أكبرها، فمن شأن ذلك أن يُوقِفَنَا على القوانين التي تحكم تلك اللغة؛ ممّا يسهّل علينا فهم أبنيتها الصرفية وتراكيبها النحوية. كما يُعِينُنَا على رصد التغيرات أو التطورات التي طرأت عليها عبر تعاقب الدهور؛ ممّا يُسْهِمُ في إغناء معرفتنا بتلك اللغة.
كما أنّ علم الأصوات يُسْعِفُ في وضع أبجديات أو ألفبائيات دقيقة للغات التي ليس لها أنظمة كتابية، كبعض اللغات الإفريقية القديمة، أو إصلاح التمثيل الكتابي الموجود للغة ما حتى يكون أشدّ دقّة في تصوير أصواتها. ولا نُغْفِل دور هذا في تيسير قراءة مفردات المعاجم الأجنبية خاصّة أثناء تعلّم اللغة؛ ممّا يؤهّل المتعلّم على إجادة نطقها نطقا صحيحا، كما يجب أن تنطق لا كما ينطقها عامّة الناس. فقد نجد اللغة الأمّ تشترك مع غيرها من اللغات الأجنبية في بعض الأصوات، إلّا أنّها لا تنطق بالطريقة نفسها. وأحيانا، نجدها لا تتوافر على أصوات معينة؛ فتتدخّل الأبجدية أو الألفبائية الصوتية الدولية لإصلاح هذا الخلل.
خذ على سبيل المثال: صوت /ت/ في العربية وصوت /t/ في الإنجليزية، ففي العربية هو صوت أسناني، لكن في الإنجليزية هو صوت لثوي. وصوت /ض/ الذي تختصّ به العربية، حتى سُمِّيَت لغة الضاد. وصوت /س/ في الفرنسية الذي لا ينطق دائما على نحو واحد، كما أنّه يتّسم بتعدّد الرمز الكتابي له /s/، /ss/، /c/.
فإلى جانب ذلك، علم الأصوات يطلعنا على ظواهر صوتية لها أهمية بالغة في التخاطب والتواصل باللغة، كالنبر والنغمة والتنغيم والفاصلة والبدل الصوتي (Allophone)، فقد يقع لَبْسٌ في فهم مراد المتكلّم؛ إن لم يُرَاعِ ظاهرة صوتية معيّنة أثناء حديثه مع السامع، فمثلا: قد يُفْهَم الإخبار من جملة استفهام، جَرَّاءَ إغفال التنغيم، أو يُفْهَم عكس المقصود عند ترك الفاصلة، كأنْ يقول مجيب لسائل (هل عاد والدك من السفر؟): “لا ردّه الله”، أَرأيت أنّ ترك الفاصلة، وهي: انعدام الصوت مدّة يسيرة من الزمن لفصل نهاية عبارة عن بداية أخرى، عند “لا” قد جعل نفي العودة من السفر والدعاء للوالد بالرجوع سالما، وهو،لارَيْبَ، قَصْدُ المتكلم، دعاءً عليه بعدم العودة؟!
استنتاج:
وبناء على ما سلف عرضه، نستنتج أنّ علم الأصوات بأقسامه أو فروعه يقدّم خِدْمَةً جُلَّى للغة، بما هي سلسلة أصوات متراصّة ومتناسقة ومتعارضة باستمرار، يتواصل بها البشر فيما بينهم، ويعبّرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم، وينقلون علومهم ومعارفهم وتجاربهم إلى غيرهم، ممّن عاصرهم أو سيأتي بعدهم من أجيال، سواء من حيث إنتاج تلك الأصوات أو انتقالها أو إدراكها أو تمثيلها كتابة أو تعلّمها أو تعليمها… فهو يمدّ دارس اللغة والباحث فيها بأدوات ومناهج وتقنيات تُفْضِي به إلى الإحاطة بالنظام الصوتي للغة التي يزمع على دراستها؛ وهذا من شأنه أن يحفظ للغة كيانها داخل المجتمع، ويُسْهِمَ بقسط وافر في تطويرها حتى تبقى حية في دائرة التداول والتواصل.
إقرأ أيضاً:
كيفية دعم طفل يعاني من عسر القراءة
الوسائل التعليمية… تعريفها، أهميتها، وتصنيفها
تنمية المهارات اللغوية لدى أطفال مرحلة ما قبل المدرسة