عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم…. من عودة الروح بعد ثورة 1919 إلى عودة الوعي بعد الحقبة الناصرية… في إحدى الصباحات الصيفية، وقتما كان هناك اهتمام جارف بالثقافة للنشء وللشباب. وحين كان يتم إصدار مطبوعات مكتبة الأسرة في إطار المهرجان السنوي الصيفي الملقب بـ “مهرجان القراءة للجميع”. وقت أن كنا نصحو مبكرًا للغاية لكي نتخاطف النسخ القليلة من الكتب والإصدارات. تلك التي كانت تصل إلينا في مدن الصعيد وتباع لدى بائعي الجرائد يوميًا. كنا أيضًا نحاول أن نختار من الكتب التي تستحق هذا العناء. وذلك عن طريق تتبع ما تعلن عنه إدارة المهرجان في الجرائد اليومية من إصدارات وموعد إصدارها وإتاحتها للجمهور.
كان منا من كانت تساعده قدرته المادية على أن يرشو بائع الجرائد. وذلك لكي يُبقي له نسخة مما يرغب من الكتب. وذلك قبل أن تنفذ النسخ قليلة العدد تلك التي تصل بلدتنا بالقطار فجرًا. وأغلبنا ممن لم يكن لديهم هذه القدرة المالية مثلي. إما أنه كان يصحو مبكرًا لشراء ما يريد، أو أن يستعير ما يريد قراءته من آخرين اشتروا نسخة منه. وقد كان من الشائع أيضًا بيننا أن نتبادل الكتب لقراءتها بنظام المقايضة والاسترجاع. وذلك حتى يقرأ كل منا ممن نحب القراءة في بلدتنا أكبر عدد ممكن من الكتب المتاحة. وذلك للتغلب على الصعوبة في توفير الأموال اللازمة للشراء من ناحية. ولأن مكتبات مدارسنا لم تكن تحتوي على الكثير مما يهمنا قراءته من كتابات وروايات.

عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم….
عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم
وأذكر، أنه في ذلك الصباح الذي أتحدث عنه، وفي زيارتي لفرش بائع الجرائد وتصفح عناوين ما لديه منها، ومن كتب ومجلات لا أستطيع شرائها، بعيني. أن علمت أنه في الغد سوف تصدر رواية “عودة الروح” لرائد مسرح المجتمع الكاتب الفذ “توفيق الحكيم”. وأن نسخة الرواية سوف تكون متوفرة لدى الباعة كالمعتاد ضمن ما يتم إصداره من روايات ودراسات وترجمات في مهرجان القراءة للجميع. وكان سعر النسخة حينها فقط ثلاث جنيهات مصرية لا غير. فقررت ساعتها أنه لا نوم سوف يزورني إلا ونسخة الرواية بين يديَّ في فجر اليوم التالي. وقد انتهيت من قراءتها فورًا بعد استلامها بأقل من ساعتين من شدة اهتمامي بها. خصوصًا وأني كنت قد قرات بالفعل الكثير عنها في إطار ما قرأت عن ثورة يوليو 1952 وعن عبد الناصر. وأيضًا عن أن توفيق الحكيم قد تنبأ عنه في صورة بطل روايته “عودة الروح”… فهل فعلاً هذا ما تم؟؟؟ هذا ما سوف نتعرفه حين نتعرف سويًا قصة رواية توفيق الحكيم الأشعر “عودة الروح”.
عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتحدث عن أي عمل قام بتأليفه توفيق الحكيم دون أن نتحدث عنه هو شخصيًا. فهو الأديب الذي عاصر كبار الكتاب والأدباء وعلى رأسهم طه حسين عميد الأدب العربي والذي شاركه إحدى الأعمال الهامة في الأدب العربي التي يكتبها كاتبان وأديبان كبيران. ألا وهي رواية “القصر المسحور” التي قاما سويًا بتأليفها فصلاً فصلاً حيث كان توفيق الحكيم يكتب فصلًا في صورة حوار مسرحي ليكمل بعده طه حسين الفصل التالي في صورة سرد روائي بأسلوبه المميز وهكذا حتى انتهيا من كافة فصول الرواية. وهذه الرواية أيضًا تعتبر من الأعمال التي سحرتني وقت أن كنت غضًا صغيرًا أدرس في المرحلة الثانوية أو ربما الجامعية في بدايتها. حيث لست أذكر التوقيت الذي قرأتها فيه بالضبط.

عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم….
عودة الروح،،، من هو توفيق الحكيم؟
توفيق الحكيم هو كاتب روائي ومسرحي من الرواد في الأدب تقريبًا في كل أنواعه خصوصًا المسرح بشكل عام ومسرح المجتمع بشكل خاص. وهو له مجلد كامل كبير جدًا في الحجم وفي عدد الصفحات يجمع عدد كبير من المسرحيات ذات الفصل الواحد وذات الفصول المتعددة (أو الفصول الثلاثة المعتادة) أيضًا. مسرحيات جميعها تناقش مشكلات المجتمع المصري والعربي في زمنه وبعضها مشكلات في كل الأزمان ويسمى هذا المجلد “مسرح المجتمع”. كما أن لتوفيق الحكيم عددًا كبيرًا من المسرحيات المستوحاة من الأساطير اليونانية/ الإغريقية ومن التاريخ المصري والعربي ومسرحيات فلسفية. هذا بالطبع بالإضافة إلى رواباته ومقالاته النقدية ودراساته في الفن والأدب.
فتوفيق الحكيم، الذي ولد في أكتوبر عام 1898، وذلك في مدينة الأسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط. درس في فرنسا، باريس عاصمة النور والثقافة في أوروبا. وقد كان من المفترض أنه ذاهب إلى هناك من أجل دراسة القانون كما أراد والده. إلا أن عشقه للمسرح جعله يدرس المسرح في باريس والمسرح الأوروبي. وعندما اكتشف أن أصول المسرح الأوروبي مبنية على أسس المسرح اليوناني فقد اتجه إلى دراسته وتأثر به. كما أنه درس الأساطير والميثولوجيا اليونانية وتأثر بها في إنشاء مسرحه الخاص الذي هو مسرح ذهني أكثر منه مسرح تمثيلي من السهل تجسيده على خشبة المسرح. لذلك فمسرحيات توفيق الحكيم أغلبها من المسرحيات التي تستمتع أكثر بقرائتها عن مشاهدتها على خشبة المسرح إلا إذا تم معالجتها من قبل مؤلف أو مخرج متميز.
عودة الروح،،، ملخص للرواية
رواية عودة الروح كتبها توفيق الحكيم عندما كان يدرس في فرنسا وذلك في عام 1927، ولكن قام بنشرها بعد 6 سنوات وذلك في عام 1933. المسرحية تحكي عن “الشعب” وهم عائلة مكونة من زنوبة، الأخت، وأخوتها الثلاثة: سليم اليوزباشي الذي تم رفته من البوليس لسوء السلوك، حنفي الأخ الأكبر ورئيس شرف الشعب الذي يعمل مدرسًا في مدرسة ابتدائية. وعبده طالب الهندسة، ومحسن قريبهم (ابن أخوهم) الطالب الذي جاء من الأرياف للدراسة وسكن معهم رافضًا السكن في مكان أفضل كما يتيح له وضعه المادي. فهو من عائلة غنية يمكنها توفير الأفضل له لكنه يحب السكنى مع “الشعب” كما يسمون أنفسهم. وأخيرًا معهم الخادم مبروك الذي يعيش معهم كواحد منهم… من العائلة أو فرد من “الشعب” بدرجة “خادم شرف”.

عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم….
تدور أحداث القصة بين هؤلاء أفراد الشعب ويبرز من وسطهم البطل “محسن” الشاب الصغير. زنوبة العانس التي تبحث عن زوج وتضع عينها على جار من الجيران تحاول أن تسحر له من أجل أن يتقدم لخطبتها. أيضًا باقي الشعب يحاول أن يستميل ويتصارع لنيل رضا جارتهم الشابة الجميلة “سنية” تلك الفتاة العصرية والتي تتعلم العزف على البيانو. الصراع يدور بين أفراد الشعب لاستمالة “سنية” ونيل حبها بما فيهم “محسن” الصغير الذي تربى على الغناء في بيت أبيه مع العوالم الذين كانوا ضيوفًا لإحياء الحفلات التي كان ينظمها أباه في بيتهم الريفي الكبير.
أيضًا، الصراع يمتد بين سنية وزنوبة على الزواج من “مصطفى” الذي تسحر له زنوبة لكنه لا يراها بل يرى سنية ويرتب بها. وهذا الارتباط بين سنية الفتاة الجميلة ومصطفى الغني “الملتزم” يجعل الجميع يعادونها بعد أن كانوا تحت أمرها ويرغبون في خدمتها وإنجاز أي رغبة لها. وتنتهي الرواية باشتراك الجميع في ثورة 1919 ويتم القبض عليهم من قبل البوليس لتجمعهم كلهم زنزانة زاحدة تمامًا كما جمعتهم غرفة نوم واحدة حين أصابهم المرض في بداية الرواية.
تحليل ونقد لرواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم
يعتبر البعض أن رواية عودة الروح هي رواية من نوع الروايات السياسية. فهي تكشف في جوهرها التضامن الذي جمع الشعب بكل طبقاته. فهي تتحدث عن “الفقر” والجوع، والنظام الطبقي الذي يعيش فيه الشعب وفي نفس الوقت تدعو إلى الاشتراكية بين الشعب الذي تمثله العائلة وتتسمى باسمه. ولهذا اعتبر البعض أن الرواية تنبأت بشكل مبكر عن ثورة يوليو 1952 وعن الاشتراكية التي قادها جمال عبد الناصر. وأن “محسن” كان هو الرمز الذي جسده البكباشي حين تولى السلطة وقاد الشعب نحو الاشتراكية متمثلة في القضاء على الطبقية.
في الرواية استخدم توفيق الحكيم المتميز في المسرح أسلوب الحوار بلغة تناسب كل شخصية من الشخصيات ومستواها العلمي والثقافي. كما أنه وضع فيها من حياته الشخصية بعض الأحداث التي عاشها والخبرات التي خبرها. الفترة التي عاشها توفيق الحكيم الذي ولد بعد ثورة 1919 شهدت تحولات كبرى على المستويين الدولي والمحلي. ولكن توفيق الحكيم كالعظماء من الكُتاب لم يتحول إلى معلم في التاريخ بقدر ما كان راويًا لرواية اجتماعية سياسية رمزية ناقش فيها الكثير من القضايا دون وعظ أو خطابة.
أذكر أني حين كنت أعمل في التعليم معلمًا، ان استفدت من الرواية في كيفية مناقشة موضوع “الحب” مع الطلاب. وذلك مع الطلاب في مرحلة المراهقة حين كنا نهتم بهم تربويًا كما كنا نهتم تعليميًا. ففي الرواية سوف تجد محسن البطل يناقش موضوع الحب داخل فصله في حصة اللغة العربية منطلقًا من مشاعره الفياضة تجاه سنية. ولقد كان الموضوع جذابًا لزملائه ولم يعترض عليه معلمه المتزمت لأنه انطلق من حب الله ومن بعده حب الإنسان وهكذا. وكأنه من النصف الأول في القرن العشرين يحاول أن يتعامل مع مشكلة لا زالت تؤرقنا في القرن الواحد والعشرين.

عودة الروح،،، رواية لتوفيق الحكيم….
الرواية تتحول إلى مسرحية يتم تجسيدها على خشبة المسرح
في عام 1963 تم تحويل رواية “عودة الروح” إلى مسرحية، وذلك بإعداد مسرحي من بكر رشوان. وقد أخرجها للمسرح المخرج جلال الشرقاوي. قام بالتمثيل وأداء الشخصيات المختلفة في المسرحية كل من: سعيد صالح، نور الدمرداش، محمد عثمان، سلوى حسين، نعيمة وصفي، سناء مظهر، سهير رضا، عصمت عباس، صلاح قابيل وغيرهم من الممثلين.
المسرحية عرضت الرواية تقريبًا كما هي بكامل قصتها ما عدا بعض الأحداث غير اللازمة وغير الضرورية للإنتاج المسرحي. وهي مسرحية ممتعة وتم تصويرها بالأبيض والأسود.
شاهد المسرحية واستمتع بها
ختامًا،،،
المسرحية تحتمل الكثير من التأويلات. ولو تحدثنا عن قصتها وعن تحليلها من كل الجوانب في الفكر وفي الأسلوب. لاحتجنا إلى كتابة الكثير من المقالات. جدير بالذكر أن توفيق الحكيم بعد انتهاء حكم عبد الناصر. قام بنشر كتاب عنوانه “عودة الوعي” ينقد فيه الفكرة التي كانت سائدة عن رواية “عودة االروح”. تلك الفكرة التي كان مفادها أنه تنبأ بعبد الناصر ونظامه وسانده. فهو في “عودة الوعي” اعتذر عن هذا وقرر أنه وغيره كانوا مغيبين ومنبهرين بشخصية الزعيم. لكن الوعي قد عاد إليهم وأنهم قد اكتشفوا أنهم كانوا “غائبون عن الوعي” أو مخدوعون.
كتابات توفيق الحكيم تقريبًا قرأت عن شخصي ربما 99% منها. ولكن بعد مرور السنوات أجدني أرغب في إعادة قراءتها مرات ومرات. فهي كتابات رائعة وسلسلة في الأسلوب كما أنها تناقش قضايا وتطرح تساؤلات سوف نظل نبحث فيها على مر الأزمان. وأخص من هذه الكتابات الروائية والمسرحية التي قرأتها: حماري قال لي، الرباط المقدس، عودة الروح، عودة الوعي، القصر المسحور، اهل الكهف. سليمان الحكيم، مسرح المجتمع (مجلد)، مصير صرصار، المسرح المنوع (مجلد). الملك أوديب، يوميات نائب في الأرياف، عصفور من الشرق، براكسا أو مشكلة الحكيم، الأيدي الناعمة… إلخ. من كتاباته الرائعة.
الكاتب/ أسامة الأديب
استشاري تعليم وتنمية
إقرأ أيضاً:
من “الحاكم بأمر الله” إلى “الحاكم بأمره”
جايلو… مغامرة حياتية (مسرحية لأسامة الأديب)
لا أحد ينام في الاسكندرية، رواية لـ “إبراهيم عبد المجيد”
فيلم أسد وأربع قطط ،،، فيلم كوميدي خفيف من نوع أفلام التسالي
مسرحية “قضية ذهب الحمار”، قضية شعوب يحكمها الطامعون، المهرجان الختامي للمسرح يونية 2022