لا جرم أن شأن الرواية في أدبنا العربي قد سما سموا ظاهرا، واشتد خطره، فكثر عدد المؤلفين فيها، وزاد جمهور المعجبين بها، وتضخمت دائرة المقبلين عليها بشغف ونهم، وبفهم ودون فهم، وليس أدل على هذا القول من كثرة العناوين المؤلفة في مجالها، حيث لا تكاد تتجاوز عتبة مكتبة من المكتبات حتى يفاجئك حشد لا مُتناهٍ من العناوين الملفتة في مجال الرواية..
أثر الرواية في المجتمع
وهي بهذا قد اكتسحت الشعر، وأزاحته أو كادت أن تزيحه من مضمار الأدب، وربما من ميدان النقد مستقبلا، وهي بهذا أيضا أصبحت تشكل ظاهرة لم يعهدها الدرس الأدبي عبر أزمانه المختلفة، فلم يترك الناس الشعر في أي عصر من العصور كما تركوه في عصرنا هذا، ولا نكاد نسمع بشاعر بارز له حضوره وخطره في ساحتنا العربية بعد أن انقضى زمن فرسانه المجلين كمحمود درويش ونزار قباني.
يقول الأديب الناقد الدكتور وليد قصاب:
“هذا الانتشار الطاغي للقصة (والرواية شكل من أشكالها) هو الذي يحمل بعض المتحمسين لهذا الجنس الأدبي على عدّها فن العصر الحديث، وعل عدّ زماننا المعاصر زمن الرواية، وتصويرها على أنها ديوان العرب الحالي بدلا من الشعر الذي كان ديوانهم في الماضي“
ولعل السبب الأقوى في هذا الحضور اللافت للقصة، والذي يتنامى يوما بعد يوم، هو هذه التقنيات الحديثة التي هيأت له وسائل انتشاره، فأصبحت القصة شكلا من أشكال المسرح، أو تمثيلية، وأضحت مسلسلا وفيلما وما شاكل ذلك …
على أن الذي يهمنا هنا ليس البحث عن سبب ذلك الازدهار والانتشار اللافت، ولا في عامل ذاك الهيام والإعجاب الطاغي، وإن كان هذا البحث ذا أهمية بالغة، إنما التساؤل هنا عن تأثير الرواية في الجمهور، وفي إمكانية أن يرتقي قراؤها روحيا وفكريا، أو أن تجعل منهم نخبة مثقفة فاعلة في المجتمع، وإن كان لها تأثير حقا، فما مداه؟ وهل هو تأثير خافت لا يؤثر؟ أم هو تأثير ظاهر يفرض علينا الوقوف عنده بالبحث والتدقيق؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من تحديد بعض مفاهيم المصطلحات، حتى لا نجعل كلامنا محتملا تأويلات متعددة، يذهب به قارئه كل مذهب.
مفهوم الثقافة والمثقف:
ليست الثقافة مرادفا للعلم كما هو شائع عند فئة كبيرة من العامة، ولا نعني بالمثقف ذلك الإنسان الذي أدرك معارف متنوعة، فهو قادر على استحضارها وترديدها متى ما طلب منه ذلك، فهذا أشبه شيء بجهاز الحاسوب الذي يتفوق على الإنسان في الحفظ والتخزين بأشواط، وما أبعد ذاك عن الإنسان الواعي المتزن.
إنما تعني الثقافة -حسب مالك بن نبي–
” مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته“
فهي -كما ترى- أعم وأهم من المعرفة، وأوثق صلة بالشخصية منها بجمع المعلومات واستحضارها أثناء الطلب والحاجة.
ولمحمود أمين العالم مفهوم لا يبعد عن المفهوم الأول، إذ يقول :
“بأنها رؤية عامة إلى الحياة والمجتمع، تتجسد في السلوك الفكري والوجداني والأخلاقي والذوقي للإنسان عامة“
ونحن إذا نظرنا إلى المفهومين وحاولنا استحضار العناصر المشتركة بينهما، فإن مؤدى الكلام يقودنا إلى التركيز على العناصر الجوهرية اللازمة للثقافة، وهي : الدستور الخلقي، والمنطق العلمي، والذوق الجمالي.
ومن خلال هذه النتيجة نفهم من كلمة مثقف : الإنسان الذي يحسن التصرف إزاء أي مشكلة معترضة من مشكلات الحياة، ويوظف معرفته ومواهبه وخبرته في سبيل الحل، ولا تتعارض وسائط الحل ووسائله مع تصوره للحياة والإنسان والوجود، وهذا السلوك الحسن ناتج عن الثقافة لا عن العلم، ثم هو بعد بصير بمواطن الجمال في الأدب والفن، وإلى جانب ذلك عليه أن يكون قد أخذ بحظ وافر من معارف عصره المختلفة، وعلوم تراثه المتنوعة.
ولقد تنبه إلى ذلك قدماء اليونان،
العلم عندهم يتناول ما يسمى بـ (جمنازيوم) لتقويم الأجسام، وكانت كلمة (الموزى) عندهم كلمة تعني الفنون، أي تربية النشء فكرياً وشعورياً عبر تدريسه العلوم والآداب، والتاريخ، والشعر، والغناء والرقص، مضافاً إلى ذلك الدين الذي كان مرتبطاً عندهم بالأدب والموسيقى والغناء، إذ شكّل مجموع ما تم ذكره العامل الأساس في حضارة اليونان العريقة
مدى تأثير الرواية في المجتمع:
لا يخفى على عاقل أن للأدب – والرواية شكل من أشكاله- سلطان على النفوس والقلوب، وله تأثير خفي وظاهر على مشاعر الناس، فإذا تم استغلال الأدب لتزيين فضيلة من الفضائل، فإنه يؤدي دوره على أكمل وجه، وإن أريد له على أن يعلي من شأن عادة سيئة، أو أن يجعل التقليد المذموم أمرا محمودا فإنه -أيضا- يؤدي عمله هذا السيء، كما أُريد له.
قد يحتج البعض على هذا الكلام بأن الكتب التي غيرت مجرى التاريخ، هي كتب الفكر والفلسفة لا الكتب الأدبية كالروايات والقصص، وهو كلام فيه كثير من المجازفة، وردنا عليه: أن كثيرا من المفكرين والفلاسفة استعانوا بالقصة والرواية والمسرح لبث أفكارهم في جموع الناس، ونجحوا في ذلك نجاحا مشهودا غير منكر، كما أن الأدب لا يخلو من الفكر، بل قد يغدو صورة من صوره المتعددة.
ويفترض بناء على كلامنا وما قررناه، مـن تكون الرواية العربية باعتبارها أداة من أدوات التثقيف، قد أدت دورها، وساهمت -بشكل أو بآخر- في تعزيز القيم الإنسانية التي تدعو إليها، وانها خلقت مجتمعا مثقفا يسوده الحق والخير والجمال، لاعتبار الكثرة كثرة المقبلين عليها وكثرة المؤلفين فيها.
فهل بلغت هذا الهدف المنشود ، أم ظلت بعيدة عن بلوغه، وظل حلما بعيد المنال، أم نتج عنها عكس ما أريد لها وأضرت حيث أرادت أن تنفع؟
نوعية الأثر إيجابا وسلبا:
الحقيقة أن الواقع يدل على أنها أثرت بشكل بالغ في المجتمع، ولكنه تأثير واه يتلاشى بمجرد نسيم خفيف يهب عليه، فانتشار الرواية لم يحقق أي غاية سامية أو قيمة خلقية نبيلة من الحق والخير والجمال، فتأثيرها تأثير سلبي، جلب على الناس الويلات لا السعادة، فقلبت المفاهيم، ومزقت العرى، وأشاعت الرذائل، وزينتها في نفوس الناس المحتاجين للدواء الروحي، فزادتهم يأسا ومرضا، بدل أن تكون البلسم الشافي للنفوس.
ألم تزين كثير من الروايات والقصص رذيلة العقوق عقوق الآباء بأن ترسم العاق في صورة المضطهد الذي عانى من قسوة الأب في نشأته الأولى، مبررة عقوق الولد ناتج عن تربية الوالد، وتعاطفت معه، فجعلت الإنسان عجينة تصنع منها المؤثرات الاجتماعية أي تمثال تريد، ذاهلة عن حرية الإنسان وقدرته وإرادته.
والأمر نفسه يقال في رذيلة معاقرة الخمرة، فلطالما بررت السينما والرواية للمنحرفين والسكارى انحرافهم وشذوذهم… بأن توحي لهم أن الإنسان الذي تعترضه المشاكل المستعصية عن الحل، إنسان مضطهد يجوز له أن يهرب من واقعه الأليم إلى عالم من الأحلام تحققه له مواخير الخمر وأسمارها وسماديرها.
والأمر نفسه يقال في كثير الأمور والأشياء التي تزين الأشياء في نفوس الناس على الرغم من تعارضها مع خصائص تصورهم للوجود والحياة، فتصبح الثقافة مشوهة ضحلة.
وتصير هذه الروايات وأشباهها من فنون الأدب الزاخرة لا تعرف القارئ على بيئته، ولا تبني قيما رفيعة ولا مبادئ، ولا تسهم في تنمية الوعي والمنطق السليم، ولا في تنمية الحس الاجتماعي، والأجدر بنا أن نجعل مثل هذا الضرب من الأدب وراء ظهورنا ولا نلقي له بالا، أو أن يبقى حبيس البرج الجامعي لا يتجاوزه، لأن ضرره مؤلم ، وخطره أشد، وكفى به مفسدة أن يكون حاجزا منيعا بين الفنون الجميلة وبين أفراد المجتمع.
هل يمكن تجاوز الرواية ؟
تجاوز الرواية في عصرنا أمر مستحيل التحقق في أرض الواقع، لوفرة المعجبين، وكثرتهم، وأنها صارت تلبي ما كان يلبيه الشعر من قبل، فالفن بتعبير نازك الملائكة :
” شحذ لملكات معينة في الإنسانية، لا يعقل أن الطبيعة كانت عابثة عندما أوجدتها“
ونحن نؤيد الفيلسوف جان ماري غوير عندما يقول :
“في الفنون كلها وسيلة لإنفاق الفائض من الطاقة الإنسانية الذي لا بدّ له أن ينفق، فإذا قضى المجتمع على الفن، أدى ذلك لأن تختزن طاقة متفجرة في الضمير الإنساني دون أن تجد منفذا، وهذا لا بد أن يؤدي إلى فقدان التوازن بين الحياتين الحركية والنفسية، وهو أمر مضر بالحياة الإنسانية“
في اعتقادنا أن الوصول إلى الحل الصحيح لا يكون دون أن نعرف السبب الأصلي وراء شيوع ظاهرة معينة في كل الروايات، وهي ظاهرة الوقوف على تصوير لحظات الضعف الإنساني، ثم تزيينها أو محاولة تزيينا في النفوس، فجعل ذلك النفوس تستذل لشهوات الجسد، وتعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وحين تفرغ الشعوب من الرغبة في الكفاح في طريق مثل أعلى من تحقيق رغبة رخيصة، أو مطمع حقير فإن الذي يروج من الأدب هو هذه الروايات التي نسمع صداها اليوم يصم الآذان.
فبدل أن يكون المؤلف في الرواية واعيا بما يفعل، بصيرا بمواطن الجمال ، وصاحب ذوق رفيع، ورؤية نافذة، ورأي راجح، بدل أن يكون كذلك فإنه يتبع سياسة ما يروج وما لا يروج، وما يروج عنده -طبعا- هو ما يصطفيه لنفسه ويعتز به، لأنه يحقق له ما يبتغيه من الشهرة ومن الكسب المادي على حساب الأخلاق، وعلى حساب الثقافة.
ما هو الحل؟
وإذا كان الأمر كذلك فمن الواجب على الأمة أن تكافح أسباب شيوع تلك الظاهرة في الرواية، وأن يفهم الناس أن الأدب الرفيع هو الذي يخاطب الضمير الإنساني، فالإنسان إنما صار إنسانا بتعاليه عن ضرورات الحيوان، والتربية الدينية هي الطريق الأنجح إلى تقوية روح الإنسان وتساميه عن ضرورات الحيوان، ونردد مع محمود أمين العالم قوله:
“الدين هو الأساس الموحد للثقافة، كما يقرر ذلك الشاعر الناقد الإنجليزي إيليوت الذي انتهى في كتابه نحو تعريف الثقافة، إلى أن المسيحية هي الأساس الموحد، والقوة الموجهة للثقافة الإجليزية خاصة، والوربية بوجه عام”
عود على بدء:
قبل الختام وجب علينا التنبيه إلى أن هناك آفاقا من الفكر الرحب غير الأدب وغير الرواية يجب أن يطرق بابها، وأن يتحمل في سبيلها المشقة والعناء، وأن الرضا بالرواية ترويحا عن النفس ونشدانا للمتعة و اللذة فقط، من فعل الخليين الفارغين، الذين لا يكادون يحسنون شيئا ويتزينون بأزياء العلماء النابهين.
عرفنا تأثير الرواية في جموع الناس، وأن تأثيرها واسع رحب لعلاقته بالسينما والمسرح وغيرها من التقنيات الحديثة، وهذا التأثير لم يكن محمود العواقب دائما، بل كان ضرره كبيرا وعرضنا إلى السبب، وعطفنا إلى الحل، وكان الحل -الذي ارتضيناه- هو أن يفهم الناس أنه يجب أن تصور الرواية لحظة القوة ولحظة الضعف الإنساني، ولكن يجب أن يهتف للإنسان دائما من جانب الصعود، فجانب الهبوط موجود من نفسه لا يحتاج إلى هتاف.
إقرأ أيضًا
ملخص الرواية الشهيرة “أبرياء حتى تثبت إدانتهم”
الرواية المستحيلة للكاتبة غادة السمان
2 تعليقان
مقال رائع ومفيد
هلا
مقال جدا رائع ومفيد
سلمت يداك
تحياتي