كذب مكشوف!..
كذب عليك من قال:
إن اللغة العربية أصعب لغة في التّعلم. قارن – مثلا – بين أزمنة الفعل في العربية وبين أزمنة الفعل في الفرنسية والإنجليزية؛ تجد أن العربية يكفيك فيها أن تضبط ثلاثة أزمنة: الماضي، والمضارع، والأمر، لتستطيع أن تعبّر عن كل الأحداث التي تقع في الحياة. في حين تحتاج في الفرنسية إلى أن تضبط ثمانية أزمنة فقط في (INDICATIF): (Présent, passé composé, imparfait, plus-que-parfait, passé simple, passé antérieur, futur simple, futur antérieur )، وفي الإنجليزية إلى أن تضبط خمسة عشر زمنا: (simple present, present continuous, simple past, past continuous, present perfect, present perfect continuous, past perfect, past perfect continuous, simple future, future continuous, future perfect, future perfect continuous, used to, would always, future in past )، ليستقيم تعبيرك وتسلم كتابتك من الأخطاء، وتؤدي الوظيفة نفسها التي تستطيع تأديتها بثلاثة أزمنة في العربية.
وقارن الآن بين معجم العربية ومعجم الإنجليزية، التي تعتبر الآن اللغة الأولى عالميا، ليس لفضيلة فيها فاقت بها سائر اللغات، وإنما بسبب الهيمنة الأمريكية على دول العالم، في السياسة، والاقتصاد، والتسلح… حيث مكّنتها تلك الهيمنة من فرض لغتها وثقافتها على الشعوب المغلوبة؛ تجد – مثلا – أن مادة (طال) في العربية أسعفتنا في اشتقاق مجموعة من الألفاظ للتعبير عن معانٍ مختلفة، كـ: طال، يطول، طُول، طاولة، مستطيل، استطال، أَطْوَل، أطال، يطيل، إطالة، طاول، تطاول، طائل، طائلة، طَوال، طَوْل، طُولى، طِوال، طويل… إلى آخره. في حين مقابل تلك المادة في الإنجليزية (Tall)، لا يشتق منه إلا (خزانة الملابس=tallboy)، و(طويل الجسم قليلا=tallish)، (طُول الجسم=tallness)، (دُهْن، شحم، زيت=tallow)، و(تناغم، انسجم، أرشيف=tally)، و(مسجِّل، مُدَوِّن=tallyman).
كذب عليك من قال:
إن الجرس الموسيقي لكلمات اللغة الفرنسية أفضل من الجرس الموسيقي لكلمات اللغة العربية. قارن الآن بين هذين المقطعين الشعريين في العربية والفرنسية:
- يقول محمد بن إدريس الشافعي:
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ العُلُومِ أَلَذُّ لِي |
*** |
مِنْ وَصْلِ غَانِيَةٍ وَطِيبِ عِنَاقِ |
وَتَمَايُلِي طَرَبًا لِحَلِّ عَوِيصَةٍ |
*** |
أَحْلَى مِنَ الدَّوْكَاتِ وَالعِشَاقِ |
وَأَلَذُّ مِنْ نَقْرِ الفَتَاةِ لِدُفِّهَا |
*** |
نَقْرِي لأُلْقِيَ التُّرْبَ عَنْ أَوْرَاقِي |
وَصَرِيرُ أَقْلاَمِي عَلَى أَوْرَاقِهَا |
*** |
أَشْهَى وَأَحْلَى مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي |
أَ أَبِيتُ سَهْرَانَ الدُّجَى وَتَبِيتُهُ |
*** |
نَوْمًا وَتَبْغِي بَعْدَ ذَاكَ لِحَاقِي |
- ويقول (Jean-Jacques ROUSSEAU) في (Romance):
,Au lever de l’aurore
,Sur le lit de l’amour
Zéphir caressait Flore
.Plus belle qu’un beau jour
Une jeune bergère
,Auprès d’un noir cyprès
A l’écho solitaire
.Vint conter ses regrets
تجد البون شاسعا بين الجرس الموسيقي للكلمات في المقطع الشعري العربي وبين نظيره الفرنسي، مع أنني قابلت هنا بين شعر عالم عربي وبين شعر أديب وشاعر ومفكر فرنسي بلغ شأوا عظيما في الأدب الفرنسي، حيث يُعَدُّ مرجعا كبيرا في الأدب والفكر واللغة عند الفرنسيين. فكيف إذا قَارَنْتُ بين شعر شاعر عربي وبين شعر شاعر فرنسي؟!
كذب عليك من قال:
إن المواد الدراسية تنقسم إلى مواد علمية ومواد أدبية، فاهتمّ بالمواد العلمية دون المواد الأدبية. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تُلاَمُ حينما لا تستطيع إيصال أفكارك أو التعبير عن المعلومات التي تدرسها في المواد الأخرى إلى الأستاذ؟ أليست اللغة من المواد الأدبية – كما يسمونها –؟ ثم، أليست اللغة والتاريخ والجغرافيا والدراسات الإسلامية… وغيرها من المواد علوما لها مادتها ومنهجها؟ ثم، أليست تلك المواد هي التي تبني شخصية الفرد وتجعله مواطنا صالحا في مجتمعه، يبني بدل أن يهدم، وينفع بدل أن يضر، ويحل مشاكله بدل أن يتعثر فيها…؟
كذب عليك من قال:
إن المواد الدراسية تنقسم إلى موادّ حفظ وموادّ فهم، فالمواد الأدبية موادّ حفظ، والموادّ العلمية موادّ فهم. فقل لي: كيف يستطيع أستاذ الرياضيات حل المسائل دون حفظ المتطابقات الهامة وخطوات منهج البرهنة؟ وكيف يستطيع أستاذ الفيزياء إنجاز المسائل دون حفظ المعادلات؟ وكيف يستطيع أستاذ علم الحياة والأرض تدريس الفيزيولوجيا والبثالوجيا – مثلا – دون حفظهما؟ فليس هناك علم على وجه الأرض نقتصر فيه على الحفظ دون الفهم، أو على الفهم دون الحفظ.. فكل العلوم المستخرجة التي توصّل إليها الإنسان لابدّ فيها من المزاوجة بين الحفظ والفهم. ومن ادّعى غير ذلك، فإنه لا يعرف معنى الحفظ ولا الفهم.
كذب عليك من قال:
إن الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض علوم حقة ودقيقة. فَعُدْ إلى تاريخ تلك العلوم عبر تطورها، لتكشف زيف تلك الأكذوبة؛ فكم من خطأ قد صُحِّحَ فيها واستُدرك بعد أن كان حقيقة لا غبار عليها عند السابقين؛ كانبساط الأرض في علم الفلك… وكم من نظرية قد زُيِّفَتْ بعد أن أقبل عصر التكنولوجيا بوسائله وتقنياته؛ كتطورية (شارلز داروين) في علم الأحياء=البيولوجيا، وكم من مسألة قد استُدركت في الرياضيات؛ كالأبعاد الثلاثة… وكم… فكل علم استنبطه الإنسان يحتمل الصواب والخطأ، لأن علم الإنسان نسبي وليس مطلقا.
كذب عليك من قال:
إننا قد ترجمنا العلوم عن الغرب، والآن نحن نريد إعادة تدريسها باللغة الأصلية، فرنسية أو غيرها. فَمَنْ وضع علم الجبر والمقابلة؟ ومن وضع علم الجراحة؟ ومَنْ وضع علم البصريات؟ ومن وضع علم الاجتماع وطبائع العمران وفلسفة التاريخ؟ ومن طوّر علم الفلك؟ ومن طوّر علم الطب؟ ومن وضع علم المعجمية؟ ومن وضع المنهج التجريبي الذي قامت عليه الحضارة المعاصرة بعد أن كانت العلوم نظرية عند اليونانيين؟ ومَنْ…؟
أَلَمْ يترجم الغرب (كتاب القانون في الطب) لابن سينا، و(كتاب الطب) لابن رُشْدٍ، ومقدمة ابن خلدون، وخوارزميات الخوارزمي، و(كتاب الجراحة) للزهراوي… وغيرها من الكتب في علوم شتى، ثم عكفوا على دراستها وبنوا عليها تقدمهم ونهضتهم؟ ألم يكن العالم الغربي يعيش ويلات العصور الوسطى في حين كان العالم الإسلامي يقود سفينة التحضر والرقي؟ ألم يكن الطلبة من العالم الغربي يسافرون إلى ديار المسلمين لتعلم العلوم المختلفة وشراء الكتب النادرة؟ ألم تكن اللغة العربية لغة العلم والأدب والثقافة وقتئذ؟ ألم يكن مَنْ يريد قراءة أحدث النظريات ملزما بتعلم العربية؟
لقد ضيعنا حضارتنا بما جنته أيدينا؛ من كسل وخمول ودَعَةٍ واستهتار بالعلم وبأهله، وصرنا نمجّد اللعب والغناء والعبث والبطالة، بل أنفقنا مقدّراتنا على ذلك، ثم جلسنا نبكي على الأطلال، و«من بكى على الأطلال، لم تكفه دموع الخنساء!» بل أدهى من ذلك شرعنا نمجد لغة الغير وثقافته، ونمكّن لهما الغلبة على لغتنا وثقافتنا، تحت شعارات برّاقة خدّاعة؛ كالانفتاح، والعولمة، والمعاصرة، والتحضر… بسبب مركب النقص النفسي الذي نحياه، ونُشِّئْنَا عليه في مدارسنا من قِبَلِ أنصاف المعلمين والأطر التربوية، وبسبب الهزائم المفتعلة التي لحقت بنا في هذا العصر.
كذب عليك من قال:
إن سبب تخلفنا هو الدين. ويكفي في بيان هذه الفرية أن تعلم أنّ أول آية نزلت من القرآن العربي المبين هي:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم).
فكيف إذا علمت أن العرب المسلمين الذين نزل عليهم هذا القرآن المجيد، كانوا يعيشون في جزيرة معزولة عن العالم إلا قليلا، في صحراء قاحلة، في ضيق من العيش، حروبهم كادت أن تُفْنِيَهُمْ، فإذا بهم يصلون إلى الصين والهند وأوربا وإفريقيا حاملين هذا الدين العظيم، الذي حوّلناه بفعل العادة إلى طقوس جوفاء لا رُوحَ فيها ولا أثرَ على السلوك، فليس من الإسلام أن نلوّث شوارعنا ومؤسساتنا، وليس من الإسلام أن نضيع أوقاتنا، وليس من الإسلام أن نجهّل أبناءنا، وليس من الإسلام أن نغش غيرنا، وليس من الإسلام أن نفرّط في الأمانة، وليس من الإسلام أن نخرّب الممتلكات العمومية… وليس… وليس… وإذا بهم ينشئون حضارة لا زالت آثارها قائمة في بقاع الدنيا تشهد بعبقريتهم وبراعتهم وتفوقهم، وإذا بهم يحرّرون الشعوب من أغلال الخرافة وآصار الأساطير وعبث الوثنية، وإذا بهم يقودون العالم في الركب الحضاري لأزيد من ثلاثة عشر قرنا. فهل يصح في عقل عاقل أن يقول: إن الدين هو سبب تخلفنا؟!
آهٍ على زمان! أضحى فيه العلم عِلْكَةً تَلُوكُهَا الألسن دون بحث ولا تأهّل ولا معرفة ولا تحقيق. إنّ الكلام في العلم حق مكتسب وليس حقا فطريا، لأن الإنسان يُولد جاهلا ثم يتعلم شيئا فشيئا، لكنّ الشأن، كلّ الشأن، أن يتعلّم علما صحيحا يعصمه من المزالق في هذه الحياة، التي تموج بكثير من (الجهل المركب!).
إنني أدعوكم، جميعا، إلى الاهتمام بدراستكم، والحرص على تعلّم المواد كلها، سواء كانت لغة أو غيرها، دون التفرقة بين المواد الدراسية، ولو كان معامل مادة ما صفرا؛ لأنّ لكل مادة وظيفة معينة تؤديها في حياتكم، فلا حديث عن التخصص الفعلي إلا بعد الحصول على البكالوريا، آنئذ كل إنسان حرّ في اختياره، حسب ميوله ورغباته، وليس معنى هذا أن هناك تخصصا أفضل من تخصص، ولا مادة أفضل من مادة، ولا من اختار تخصصا معينا أذكى من غيره ممن لم يختر ذلك التخصص، إنما هي ميولات ورغبات، ثم البحث عن أقرب طريق للحصول على لقمة العيش ليس غير، ومن زعم غير ذلك فقد خالف شواهد الواقع، وكفى بالواقع دليلا وشاهدا.
واعلموا أن الإنسان يُولَد صفحة بيضاء، ثم يتولّى المجتمع ملء هذه الصفحة، لتتحوّل بعدُ تلك الأفكار المكتوبة بالصفحة إلى شعور يحسّ به، ثم إلى سلوك يعيشه في حياته دون وعي ولا شعور، لذا ينبغي لنا أن نَتَنَبَّهَ إلى الأفكار التي تكتب في صفحاتنا البيضاء صباحَ مساءَ، في البيت، والمدرسة، والشارع، ووسائل الإعلام والتواصل، فقد تكون سُمًّا زُعَافًا يقتلنا مع أنّنا أحياء على ظهر الأرض؛ فَرُبَّ تلميذ كان مجتهدا في مادة ما، ثم فجأة صار كسولا ومتهاونا فيها، بسبب فكرة هوجاء تلقّفها من أستاذ أو إطار تربوي أو أبّ أو أمّ عن تلك المادة، دون أن يُعْمِلَ فيها فكره وعقله لحداثة سنه وقلة علمه، فأثرت سَلبا على مستواه العام في الدراسة؛ لأن مجموع المواد كلها هو الذي يشكّل المعدل العام، فكم هو متحسر مَنْ حُرِمَ دخول كلية معينة أو مدرسة محدّدة، بُغية استكمال دراسته العليا بسبب نقطة واحدة قد فرّط فيها.
إنّنا نحيا في مجتمع مليء بالأفكار الخائبة التي دمّرت حياة ناسٍ، وقضت على أحلامهم، حتى ارتموا في أحضان الانحراف، أو رَضَوْا بالدُّونِ، بعدما كانوا يتحرّقون شوقا إلى مستقبل زاهر، يتركون فيه بصمتهم في الحياة، حتى إذا جاء أجلهمح قال الناس: مروا من هنا، وهذا الأثر. فانتبهوا إلى أفكاركم، فإنها تتحول إلى مشاعر. وانتبهوا إلى مشاعركم، فإنها تتحول إلى سلوكات. وانتبهوا إلى سلوكاتكم فإنها تحدّد مصيركم.
هَلْ صَحَّ قَوْلٌ مِنَ ﭐلْحَاكِي فَتَقْبَلَهُ |
*** |
أَمْ كُلُّ ذَاكَ أَباَطِيلُ وَأَسْمَارُ |
أَمَّا ﭐلْعُقُولُ فَآلَتْ أَنَّهُ كَذِبٌ |
*** |
وَﭐلْعَقْلُ غَرْسٌ لَهُ بِالصِّدْقِ إِثْمَارُ |
إقرأ أيضاً:
الوسائل التعليمية… تعريفها، أهميتها، وتصنيفها
تنمية المهارات اللغوية لدى أطفال مرحلة ما قبل المدرسة