الطبيب الأحمق! …في سالف الدَّهْرِ، كان المرضى يُقْبِلُونَ على طبيب ملقّب بــ “الحكيم تُومَا!”، طلبا لعلاج ما نَابَهُمْ من أدواء وأوجاع، تَقُضُّ مضجعهم، وتُثْقِلُ كَاهِلَهُمْ، بل تُبَغِّضُ إليهم وجه الحياة كلّ البُغْضِ. ولعلّكم تشاركون الآن هؤلاء المرضى في أحاسيسهم ومشاعرهم؛ لأنكم قد جَرَّبْتُمُ الْمَرَضَ مثلهم لا مَحَالَةَ..
كما أنكم تعلمون أن أُمْنِيَةَ المريض الوحيدةَ هي أن يذهب عنه ما يَجِدُ من وجع وأَلَمٍ، فيكون مستعدّا حينئذ لبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل ذلك، بل إنه يزور كل طبيب يُنْصَحُ بزيارته، ويُجَرِّبُ كل وصفة تُوصَفُ له دون أدنى تردّد. إنه دماغ الزواحف الذي يُحْيِي فيه غريزة البقاء بقوة. فماذا كان من طبيبنا “الحكيم توما” مع مرضاه؟
لقد كان الطبيب الأعجوبة.. الطبيب الأحمق
الذي يسعى إلى علاج مرضاه الوافدين إليه من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ، بكل ما أُوتِيَ من علم ومعرفة طبية، حَصَّلَهَا من دراسته في هَاتِيك البلاد الأجنبية، التي تُخَرِّجُ جامعاتها سنويا أطباء ماهرين في التّشخيص والعلاج بأنواعهما المختلفة! وتَمْنَحُ على ذلك شهادات عليا موثوق في حملتها! فلا مجال للغشّ عندها ولا للتّزوير ولا لشراء الذّمم! كل طالب يَحُوزُ تلك الشهادة بعرق جبينه لا بِفُلُوسِهِ ونقوده! وإيّاك أن تُغْفِلَ اختبار التّخرّج الصّعب جدّا! الذي لا يَجْتَازُهُ الطالب إلا بعد إتقان المواد الآتية: الفيزيولوجيا، البثالوجيا، طرق التشخيص والعلاج، الجراحة، مفردات الأدوية!
آهٍ آهٍ، من زمن التّدليس والاستخفاف بالعقل!
فلعلّكم الآن عرفتم البِيئَةَ التي أفرزت لنا “الحكيم توما”. فمن الطبيعي أن يكون طبيبا ماهرا في الأخطاء التشخيصية، ومن الطبيعي أن يكون بارعا في وصف الأدوية الناجعة في الإضرار، ومن الطبيعي أيضا أن يكون جرّاحا = جزّارا لا يُشَقُّ له غُبَارٌ! لقد استودعه مرضاه أمانة أجسامهم وأرواحهم، فلم يكن عند حسن ظنّهم، بل خابوا، وخسروا، لا أقول: خسروا أموالهم وأوقاتهم، وإنما خسروا أرواحهم. لقد قرأ هذا الطبيب الأحمق في كتاب طب قديم: «الحبة السوداء دواء لكل داء»، فَصَحَّفَهَا وحَرَّفَهَا لجهله الذي لا يباريه فيه أحد إلى:
«الحبة السّوداء دواء لكل داء».
فشرع يعالج مرضاه بِسُمِّ الحية السوداء لا بزيت الحبة السوداء؛ فأهلكهم جميعا. وصار بذلك أُحْدُوثَةً يَتَنَدَّرُ بها الشّعراءُ في مجالسهم، فيسخرون من حمقه، ويَعْجَبُونَ لجهله، حتى نظموا فيه أبياتا حفظتها لنا ذاكرة التاريخ، منها:
قال حمار الحكيم تومـا |
*** |
لو أنصفوني ما كنت أركبُ |
لأن جهلي غدا بسيطـا |
*** |
وجهل راكبـي مركـبُ. |
أمّا أنا،
فأعجب لحصوله على شهادة في الطب، والسماح له بفتح عيادة طبية، يعالج فيها الناس المرضى – أقصد: يقتل فيها الناس المرضى –. وأَيُّ عَجَبٍ في ذلك؟! أَ لاَ تعلم أننا نعيش زَمَنَ طغيان المال على المبادئ والأخلاق؟!
بلى، إنّني أعلم ذلك. إذًا، فكل شيء يمكن أن يُشْتَرَى بالمال، حتى الشواهد العلمية، ولو كان حاملها أجهل الجاهلين، وحتى لو أدى ذلك إلى إفساد البلاد والعباد. فأين الكفاءة العلمية – إذًا –؟
لقد أصبحت أثرا بعد عين. لقد صرنا نقرأ عنها في صفحات تاريخنا المجيد فحسبْ، وقلّ أن تجد من يتّصف بها في واقعنا الاجتماعي.
فقد أفضى بنا التفريط في أولي الكفاءة العلمية في سائر الميادين،
إلى تكرار صورة الطبيب الأحمق في شتى المجالات؛ في الطب، حيث نسمع ونقرأ جنايات الأطباء الجهال على المرضى في التشخيص والعلاج والجراحة ووصف الأدوية، بل سرقة بعض الأعضاء من مريض تحت التخدير الكُلِّيِّ؛ كالكِلَى مثلا، والاتّجار فيها طلبا للربح السريع. وفي التعليم والتربية، حيث تُسْنَدُ مَهَمَّةُ تنشئة جِيلِ المستقبل إلى أناس جهّال، لا المادّةَ أتقنوا، ولا علمَ النفس التربوي درسوا، ولا بأخلاق المهنة اتّصفوا، خاصّةً في مرحلة التعليم الأساسي، التي هي نواة تشكّل وعي التلميذ وشخصيته، فتظهر في هذه المرحلة اضطرابات التّعلم بشكل بارز، ولا تجد من يحسن التعامل معها؛ مما ينعكس سَلْبًا على تحصيل التلميذ الدّراسي، فيبدأ بالشّك في قدرته على التعلم مِثْل باقي زملائه، وسرعان ما يَنْتَابُهُ هَاجِسٌ مُفَادُهُ: “أنا لم أُخْلَقْ للدراسة، فإنني لا أصلح لها أبدًا!” فينتهي به الْمَطَاف إلى الارتِمَاء في أحضان الانحراف، أو الرِّضَى بالدُّونِ في مجتمع لا يرحم إلا قليلا، هذا إن كان عنده زِمَامٌ من عقل يَكُفُّهُ عن الانحراف.
فمن الخاسر بعد هذا؟
إنه المجتمع.. إنه الدولة.. إنه الأمة.. التي ضاعت في فرد من أفرادها، لرُبَّمَا كان يحمل لها بصيصا من نور التقدم والازدهار في مجال من المجالات، لو أنها أحسنت التعامل معه. وما يُدْرِيكَ؟ لعلّ ذلك يكون! إنه الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم؛ عقلا، وجسدا… وفي كلّ شيء.
ولَكَ أن تقيس على هذيْن المجاليْن: الطب والتعليم، المجالات الأخرى التي لم أذكرها خشية الإطالة؛ كالسياسة، والاقتصاد، والهندسة، والصيدلة، والصناعة، والعمران، والإدارة، والمصالح العامة… فإننا إذا نظرنا في كل مجال على حِدَةٍ، وأردنا أن نُحَدِّدَ سبب الخسائر الفادحة التي تَتَكَبَّدُهَا الدولة في شتى الميادين؛ سَنُلْفِيهِ متمثّلا في كلمتيْن اثنتيْن: (إقصاء الكفاءة).
وختاما،
أرجو أن يَخْتَفِيَ الطبيب الأحمق “تُومَا الإكيوني” من حياتنا المعاصرة، ويعود إلى صفحات التاريخ بجهله وحماقته وضَعف عقله؛ لأنه إن ظلّ يعيش معنا في مجتمعنا؛ فإنّ العواقب وخيمة جدًّا!
إقرأ أيضًا
قصة فيلم كرسي في الكلوب .. فيلم من صميم الحارة الشعبية المصرية