الدعوة إلى الصلح والسلام في العصر الجاهلي دعوة خافتة، كانت من عادة العقلاء وديدن المصلحين، ولم تكن في عموم عرب الجاهلية إلا لماما، ولكنها فشت بين عقلاء القوم وعِلْيَتهم حتى أضحت تشكل ظاهرة اجتماعية فيهم، ولهذه الظاهرة أسباب وعوامل، ولها رجال عرفوا بها، وأخلصوا لها على الرغم من حومة الوغى وذوق العصر الذي كان يجنح إلى ضدها، ويستعذب الموت والفناء، وفي النص المقرر من المنهاج الدراسي الجزائري لطلبة الأولى ثانوي، وهو نص لأحمد محمد الحوفي المصري، يشرح الظاهرة ويعدد أسبابها ويذكر نتائجها، وسنحاول أن نقف عنده نستكشف معطيات النص، ونعمد إلى مناقشتها، ثم نستخلص ونسجل الفوائد.
أكتشف معطيات نص ظاهرة الصلح والسلام:
نتج عن اشتعال الحروب في العصر الجاهلي كثير من الفوضى والدمار، فالنساء إما أرامل أو ثكالى، والاطفال بين قتيل ويتيم، ولا من معين ولا نصير، وهذا الوضع المزري دفع بعض الشرفاء والأشراف إلى الدعوة للصلح والسلام، إشفاقا على قومهم وقبائلهم، وقد كان يبنى الصلح غالبا على تقدير ديات القتلى من الجانبين، أو تسليم القبيلة القاتلَ للقصاص.
ولقد سميت حروب العرب ووقائعهم: “أياما” ، فأيام العرب هي حروبهم ومعاركهم، وقد كانوا يسمونها نسبة إلى المكان الذي تقع فيه على الأغلب، مثل يوم أحد، أو غزوة أحد في الإسلام، فالنسبة كانت إلى الجبل الذي حدثت فيه المعركة بين الشرك والتوحيد، وأيامهم في الجاهلية كثيرة، ذكر الكاتب منها “يوم سمير” وهو وقعة (معركة) كانت بين الأوس والخزرج.
وكثرة هذه الحروب في العصر الجاهلي لا يدل على أن العربي كان يجهل نتائجها المريرة، فقد وصفها فرسانهم على أنها مرة كالعلقم، وكلها أهوال وأحزان وبلاء، وقد صورها زهير بن أبي سلمى في تلك الصور المريبة المفزعة المنفرة، كما رأينا في قصيدته السالفة.
نتيجة:
من أسباب ظاهرة الصلح والسلام في العصر الجاهلي هي: كثرة الحروب ونتائجها المدمرة دفعت بعقلاء القوم إلى ذلك، إشفاقا على قبائلهم وخوفا من الفناء.
ومن مظاهر الصلح: دفع ديات القتلى من الجانبين من طرف الكرماء ووجهاء القوم، أو القصاص، وهو تقديم القبيلة للقاتل الذي كان سببا في نشوب الحرب إلى القبيلة الأخرى.
أناقش معطيات النص:
رأينا أن الحرب عند الجاهليين كانت من عادتهم على الرغم من قسوتها وإدراكهم لنتائجها، وهذا يدفعنا إلى أن نتساءل عن أهم أسبابها التي جعلت من شبه الجزيرة ساحة حرب تحتدم بالصراع والقتال، ويرجع الدارسين أسبابها إلى البيئة الطبيعية الصحراوية، فحياة العرب كانت تقوم على الرعي في تلك البيئة الجافة، التي يقل فيها المرعى والماء، فأدى التنافس في المراعي ومواقع المياه إلى خصومات العرب المعروفة.
ومن أسبابها أيضا، البيئة الاجتماعية: فقد سنوا قانون الأخذ بالثأر، فكان الجاهلي إما واترا وإما موتورا، وكانوا يعظمون من صفات الإباء والأنفة، يثور أحدهم على أي شيء إذا أحس بامتهان كرامته، وقد يقتل فيؤجج حربا، إضافة إلى استباحتهم للغزو، فكانوا يغيرون على قوافل الأغنياء التجارية، ويقسمون غنائمها على المستضعفين والمرضى كما هو مشهور عن عروة بن الورد والصعاليك كالشنفرى وتأبط شرا.
وقد قضى الإسلام على هذه الخصومات بأن صحح الانحراف الذي وقع فيه العرب في الدين، فقد كانوا على ديانة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قبل أن يحيدوا عنها، وبهذا نفهم السبب القوي وراء تلك الأخلاق الرفيعة التي كانوا يتمثلون بها، وأنها ليست إلا أثرا من آثار هذه الديانة، وبهذا أيضا نفسر كلام زهير عن يوم القيامة في نصه الذي مر بنا.
وإذا ما رجعنا إلى العصر الحديث، فإننا نرى كيف تدمر الحروب الأوطان، بالرغم من بلوغ العلم آفاقا واسعة، وتؤدي بنا هذه الحقيقة إلى أن العلم ليس إلا أداة يمكن استخدامها في الخير، أو في الشر، فالقرن العشرون هو عصر العلم، وهو أكثر العصور الذي عانت منه البشرية من ويلات الحروب، فقد شهدت فيه حربين عالميتين مدمرتين، وحروبا أخرى لا تحصى.
والإنسانية لن تتخلص من شرورها مادامت معرضة عن منهج الله في الأرض، مقبلة على منهج الإنسان الذي لا ينتهي جشعه.
نتيجة:
ينضاف إلى أسباب ظاهرة الصلح والسلام البواعث النفسية والعقدية للإنسان العربي، فآثار الديانة الإبراهيمية لم تكن قد اندثرت بعد.
من أقوى أسباب الحروب قسوة الصحراء وانحباس الأمطار فدفعهم ذلك إلى أن يتخذوا من الغزو وسيلة من وسائل العيش، وسنهم لقانون الثأر، وتنافسهم على المرعى ومساقط الغيث.
العلم لا يساهم في كبح جماح الحرب، بل قد يكون مؤججا لنارها، فهو مجرد أداة.
أستخلص وأسجل:
كانت حياة العرب السياسية في العصر الجاهلي تقوم على نظام القبيلة، وكانت موارد العيش من ماء وكلإ شحيحة قليلة، فأدى بهم ذلك إلى الازدحام عليها، ومن ثم الاقتتال.
وكان الولاء للقبيلة وحدها مشجعا على أن يغلو العرب في سفك الدماء، ولكنهم لم يعدموا من كان يدعوا إلى السلم ويحث على حقن الدماء وتحمل الديات.
وسبب هذه الخلق العظيم إشفاق عقلاء القوم على قبائلهم، وأنه أثر باق من الديانة الإبراهيمية التي كانوا يدينون بها.
ولقد قضى الإسلام على هذه الحروب بأن جعل الولاء لله وحده، وليس للقبيلة ولا للوطن ولا للقوم.
إقرا أيضًا
الرثاء و الهجاء في العصر الاموي