الوحدة

الاكتئاب، الوباء الذي يجتاح الأرواح: كم من ملاك سمعنا قبل سنة  ضجيج روحها و هي تصرخ طلبا للموت بعد أن انتهكت النيران جسدها ؟ و ظلّ  صدى  أنينها  يطارد نومنا؟

الاكتئاب … المرض المحرّم والشّفاء الصّعب

مدهش أن يكون اسم الكابوس “ملاك”

تلك المرأة العراقية العشرينية التي لم تشبع من الحياة و رغم ذلك ودّعتها صغيرة صغر مواجع المكتئب في مجتمعاتنا العربية،رحلت تحاصرها أصوات الحسرة ليس على جلدها المتهاوي أو قلبها الذي تناثر فتاتا بل لأنّها أفنت بدنها بنفسها.

بيدي لا بيد عمرو

لم تنتظر أن تموت قهرا، لم تسمح للكلمات الجارحة أن تقتلها أكثر، أو أن يكسر عظامها و يدقّ عنقها طغيان ذكوري لا يشبع ما لم يعبث بقلبها و جيدها، فضّلت أن تحزم حقائب أحلامها أو أوهامها و كومة مشاعرها و تشعل فيها نار السّخط على الطّغيان و قلّة الحيلة و ضيق ذات اليد و خذلان الأهل و الأحبّة و تدير ظهرها لهم ليجلدوها لآخر مرّة بسياط كلماتهم القاسية كأن يقولوا ” ماتت على كفر”  ثمّ  تذهب إلى الذي لا يظلم مثقال ذرّة.

مرض العصر:

الاكتئاب  مرض العصر ، أو الوباء الذي  يجتاح الأرواح، ليس له من أعراض ظاهرة، هو الموت الصّامت الذي يسرق الأحبة في غفلة، من منّا لا يذكر الممثل الفكاهي الشهير روبي ويلمياز، أضحكنا أعواما ثم أبكانا الى الأبد، مات موبوء بالحزن ، موسوما بالقهر و لم يبدو ذلك جليّا على ملامحه السعيدة أبدا

تصف منظمة الصحة العالمية  الاكتئاب بالعلة النفسية الشائعة، وأنه يؤثر على قرابة  الثلامائة مليون إنسان،  و مع ذلك أعتقد أن الرقم أكبر بكثير، إن ثلاثة أرباع العالم تعاني، من لم يغرق في بؤس الحروب صفعه الفقر، و من  شبع ألجمه الديكتاتور، ومن نجى منه وقع تحت نعال تجّار المخدّرات و زاد وباء كورونا المنتشر منذ أكثر من سنتين من حدّة اتّساع ظاهرة الاكتئاب الذي فرضه نمط الحياة الجديد الذي أجبر النّاس على ترك المسافات بينهم، قانون التباعد  المؤسف.

كورونا…  وجه الاكتئاب الجديد

نمط الحياة الجديد فرض على النّاس العيش في وحدة قاتمة لم يتحمّل وزرها كثيرون، ما اضطرهم للبحث عن المساعدة النّفسية و العلاج من تبعات الوحدة  غير أنّ الأمر لم يكن متاحا للجميع نظرا  للظّروف الاجتماعية التي لازمت الوباء منها فقدان عشرات الأشخاص لوظائفهم مما حتّم عليهم الاقتصاد في النّفقات و لو على حساب صحّتهم العقلية و النّفسية وعلى النّقيض من ذلك، هناك من أجبرته التّدابير الجديدة على البقاء وجها لوجه دون حماية مع جلاّده.

كم من زوجات و من أطفال عانوا فترة الحجر من اكتئاب حاد مردّه  العنف الجسدي و النفسي الذي يمارسه الأزواج و الآباء و الأخوة عليهم خلال فترة الحجر دون أن يدري عن حالتهم أحد ، البعض انتهى بهم الأمر إلى اختيار إنهاء حياتهم بأنفسهم بدلا من السّجن الذي أجبروا على البقاء فيه تحت رحمة جلاّديهم  و لذلك يبقى  الاكتئاب هو الوباء الذي يجتاح الأرواح

ثمانمائة ألف انتحار في السّنة…

قرابة المليون شخص يختارون استباق أقدارهم نحو الموت و الرّحيل مبكّرا ذلك أنّ زوايا الحياة قد ضاقت عليهم و ما من نور آخر أنفاقهم

هنا يجب أن نتوقّف قليلا، و نتساءل كمجتمعات عربية و مسلمة ، كيف ننظر الى الاكتئاب ؟

قصّة ملاك نموذجا

ضحيّة للعنف الزوجي، القوارير  يا سادة تتكسّر، و الزّجاج ليس من الأشياء التي يمكن لملمتها و إلاّ ما كان سيدّ المرسلين قد اختارها وصفا للنساء، هل هذا يعني أنّ الاكتئاب لدى  المرأة أشد؟

حسنا الاكتئاب هو نفسه، فالإنسان بجنسيه يعاني و لكنّنا  كمجتمعات ذكورية، اخترنا دوما الاعتقاد أنّ بكاء النساء دلال و بكاء الرجال معناه أن الهموم بلغت قمم الجبال و هذه النّظرية بالذّات حفرت في  ذهن الرّجل العربي استرخاص مواجع المرأة و استسهال و عدم مراعاة حالاتها النّفسية مهما  بلغ بها الأمر.

في مجتمعاتنا غالبا ما يرتبط الاكتئاب كغيره من الحالات النّفسية للإنسان بالدين، و نظرة النّاس عموما للمكتئب تختزل في كونه “أبعد ما يكون عن طريق الله.

يعرض على المكتئب أن يُعالج بالصّلاة و القرآن، و مع أنّ الصّلاة مفتاح لقوّة النّفس وراحتها إلاّ أنّ الاكتئاب يبقى مرضا كغيره من الأمراض يستوجب شرعا وعلما أن يوكل لأهل الاختصاص.

وبغضّ النّظر عن أنّنا شعوب تسمّى بالعاطفية إلاّ أنّنا أبعد ما نكون عن ذلك، فالبوح مثلا يشكّل الحائط الأكثر متانة و صلابة في وجه المكتئب، طالما من العار أن يبكي الرّجال و تعترف النّساء فإنّ الاكتئاب يبقى مرضا يشعر صاحبه بالعار.

لا يشعر المكتئب في المجتمعات العربية بجدوى البوح بحالته النّفسية و انهياره وإبداء حزنه و انكساراته طالما يساوره إحساس بعدم تقبّل وضعه كمرض يستوجب العلاج أو على الأقل كحالة نفسية طبيعية تحتاج التضّامن الكامل و التفهّم و الأهم التقبّل  بدلا من السّخرية و الاستقواء.

الاكتئاب، الوباء الذي يجتاح الأرواح

بما يشعر المكتئب إذا  كان جوابه دائما:  “كن رجلا ، الرّجال لا يبكون، أو أنّ حرائر النساء تصبرن على الضرب”؟

الحجر  يا آباء البنات ليس تفّاحا و السياط ليست رخوة، الضرب مهين و موجع و الحزن الذين تشعر به بناتكن يكسر قلوبهن، و كلّ مدعاة للحزن يجب أن نواجهها بالتواجد في حياة من نحب و ملاحظة أيّ تغيّر سلوكي غير معتاد في الإنسان المكتئب و تدارك حالته باستعجال.

فنحن إذا غفلنا عمّن نعتقد أنهم أقوياء ذلك أنهم يوشحون بمواجعهم عنّا حتى لا نحزن معهم نقتلهم،  لذلك أوصيكم: انتهكوا حرمة صمت من تشكّون في انكسار أرواحهم، اسألوا عن شقيقاتكم اللّواتي بلا عمل، عن أخوانكم الذين فقدوا وظائفهم، عن أصدقائكم الذين غابوا فجأة، عن الجار الذي لم يعد يلقي التحيّة لعلّ ما فوق ظهره أثقل من كبرياءكم.

الاكتئاب في العقلية العربية الحديثة يصيب الشخص الذي يفتقد الإيمان و يغيب الله عن قراراته، الذي لا يصلّي ولا يتصدّق دفعا للبلاء، البعيد عن السّلام الروحي العميق للشّخص المتديّن

كم من متديّن صلّى الفجر و بكى ثمّ كان آخر عهده بالحياة حبل شنق به آخر أوجاعه؟

اعتقد أنّنا كلّما تقدّمنا اشتقنا الرّجوع  وراء، بالضبط الى أحد أكثر الأشخاص معاناة من  المصائب ، النبي محمد  صلى الله عليه و سلّم، هذا الرجل الذي عاش يتيما و فقد أحبّته الواحد  تلو الآخر، و هجّر من قريته، و فقد ماله، ومات ولده، جاء ليخبرنا أنّ الاكتئاب ليس عيبا  ولا قلّة دين و أنّ شفاءه يبدأ بالدّعاء أوّلا، إذ  يقول

” قُلْ إذا أصبحتَ وإذا أمسيْتَ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك من الهمِّ والحزنِ وأعوذُ بك من العجزِ والكسلِ وأعوذُ بك من البخلِ والجبنِ وأعوذُ بك من غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرِّجالِ”

و لعلّ من يستقرأ الحديث يدرك أنّ الله لم يأمرنا بالاستعاذة  إلاّ مما هو عظيم السوء، و الحزن و الهم أحد أعظم المواجع التي قد تصيب روح الانسان وبعدها بدنه، فتلك النّدوب على الجسد، تساقط الشعر، تشقّق الشّفاه، الأمراض الجلدية ، آلام الظّهر.. و غيرها هي أبدان الاكتئاب.

لم أصادف وصفا أكثر دقّة من هذا الحديث في النظر الى الاكتئاب من رجل عاش و مات قبل خمسة عشر قرنا من اليوم، غلبة الدين و قهر الرّجال؟

القهر أشدّ  من الحزن، هو يتم القوة و السّند، النفس البشرية تأبى المذلّة ، فكيف يبرأ من يهان و لا يردّ  الإهانة و كيف يشفى من سرقت لقمة الخبز من فهمه جورا و بهتانا ؟ و كيف ينسى من لم يلتئم جرحه فانهالت السياط عليه؟

الاكتئاب، الوباء الذي يجتاح الأرواح

هل يشفي الإيمان نساء تعرّضن للضّرب فلجأن لأكتف الآباء فعدن خائبات ؟ و هل يشفي الدين مغتصبات السّجون ؟ هل فيكم من يعيد امرأته و يكفل طفل المغتصب ؟ وهل يقبل الرّجل منكم رجوع شقيقته؟ و هل تغفرون زلل العازبات؟

الاكتئاب في أوطاننا وليد بلدان تمارس القهر و القمع و وليد عاهات وتقاليد أورثتنا الحزن في صمت، وأرغمتنا على التّظاهر بالقوّة حتى لا يشمت فينا شامت.

الاكتئاب ليس نقص عقيدة، و بعض الذين ركبوا موجة الشّيخنة من علماء الحفظ لا التدبّر زادوا من قهر مرضى الاكتئاب حدّة و من همّ أهاليهم، هؤلاء الذين يوزّعون أقدار الله ، مفاتيح الجنة و دركات النار ؟ هل يعي هؤلاء أنّ  القرءان الكريم صنّف العاقل من السّفيه، فيقول تعالى  في سورة النّساء “لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً

المكتئب يفتقد حسب درجات المرض و شدّته الإدراك و يبلغ ذروة الغفلة عند إتيان فعل الانتحار..  و بقراءة الآية أعلاه ندرك أن ما يمنع عن فاقد الإدراك هو التصرف في المال لا غير، و أن القول اللطيف و المعاملة الحسنة باب الشفاء، ولم يجعل من سلوكهم كفرا ولا ردّة.

ألف سنة من الاكتئاب … مستشفى بغداد و القاهرة

و هل تعلمون أنّ ببغداد التي لم تعد تحصي موتاها ولا مواجعها و لا كم من ملاك احترقت بجوانبها أول جناح للمرضى النفسيين ؟ و أنصحكم بالقراءة لمحمد  بن زكريا الرازي في  هذا الباب فقد كان مدير مستشفى بغداد، ابن سينا هو الآخر من أكثر العلماء إلهاما في علاج  الأمراض النّفسية و منها الاكتئاب

إذا كنا أبناء أمّة عالجت الاكتئاب على أساس أنه مرض نفسيّ  حوالي سنة  705(مستشفى بغداد) و 805 م  ( القاهرة) ، فكيف بنا اليوم نصفه بالموت كفرا؟ و بالبعد عن باب الله؟

المكتئب إنسان تشبّث بحبل الله إلى أوهنت قوّة وعيه و قبل أن تصفوا المرء بالكفر تذكّروا  كم من يد مدّت لملاك قبل أن تمتدّ بها إلى البنزين؟ ويحضرني الآن أن قرأت مرّة رسائل أشخاص منتحرين، قيل في إحداها

” إذا ابتسم لي شخص واحد، فقط واحد سأعود أدراجي”

الابتسامة…  طوق نجاة المكتئب

هذا  الموقف وحده كفيل بجعلنا نراجع نظرتنا للاكتئاب، فالابتسامة التي جعل منها الإسلام صدقة هي في الحقيقة طوق نجاة الكثيرين، الأب الذي يجير بناته و الأخ الذي يسند ظهر أخيه و الصديق الذي يسأل عن غياب صديقه، الجار الذي لا يشبع قبل جاره و الإنسان الذي يكفّ لسانه عن أخطاء غيره، المسؤول الذي لا ينتعل منصبه ليدوس الأضعف منه، و الموظف الذي لا يكيد لغيره، الشاهد الذي لا يقول زورا و الأمّ  التي تلوذ بالحبّ عن أخطاء أطفالها…  هؤلاء هم الجنود الحقيقيون في حرب  القضاء على الاكتئاب و نصرة المكتئب و مرافقته نحو الشّفاء.

نحن الذين لا  نأخذ صفة التألّه و لا  وزّع أقدار الله على عباده و نبحث عن طريقنا الى الجنة بدلا من حفر طريق الآخرين إلى النار، كلّنا مفاتيح في هذه الحياة من مفاتيح الشفاء الكثيرة من الاكتئاب

♣♥♠♣♥

اقرأ أيضًا

كيف أتخلص من الاكتئاب؟

كيف أتخلص من الضيق والاكتئاب؟

علامات الاكتئاب عند المراهقين وأهم أسباب حدوثه

الاكتئاب الموسمي: أنواعه، أسبابه و طرق علاجه.