نهلة كرم :كاتبة مصرية، صدر لها مجموعتان قصصيتان “أن تكون معلقا في الهواء”، و”الموت يريد أن أقبل إعتذاره”، وثلاث روايات”على فراش فرويد”، و”المقاعد الخلفية” والتي حصلت على جائزة ساويرس عام ٢٠١٩،ورواية”خدعة الفلامنجو”
تكتب نهلة بثقة وتميز، تكتب وكأنها تحرر الأفكار والكلمات من كل القيود..
– ماذا تعني الكتابة لنهلة كرم؟
إذا قلت لكِ الحياة فقد تبدو الإجابة كليشيه، لكنها فعلاً كذلك، فالكتابة هي التي تجعلني ممتلئة بالحياة، حين يكون لديً مشروع أعمل عليه، أظل مستيقظة لوقت متأخر من أجل الكتابة، واستيقظ بدون منبه في الصباح الباكر من أجل إكمال الكتابة لأن الانغماس في مشروع يجعل ذهني مشغولاً طوال الوقت بالأفكار. من المدهش أنكِ تجدين معظم الكتاب لا يعرفون ما الذي سيكتبونه في البداية. وبعض أصدقائي الكتاب وأنا منهم نقول في أول الأمر الأفكار التي لدينا لن تتجاوز عشرة الآف كلمة، وما أن نبدأ نجد الأفكار تجر أخرى. وتصبح العشرة الآف كلمة خمسين ألف أو أكثر نريد اختصارها بعد أن كنا نشعر أن الأفكار قليلة.
هذه هي الكتابة تجعلكِ وأنتِ منشغلة بها تنظرين إلى الحياة من أعلى. لا تنشغلين عنها بمعارك تافهة، أو تفاصيل صغيرة، وكأنكِ تقفين أعلى برج ترين حينها كل شيء حولكِ صغيراً، ولا يشغلكِ سوى هذه اللحظة في الأعلى. نسمات الهواء التي تجعلكِ تشعرين أنكِ على وشك الطيران، الكتابة أيضاً تُشعركِ أنكِ في الأعلى، وليس الكتابة وحدها بالمناسبة، فأي شيء يحبه الشخص ويعيش لأجله ويشعر بسعادة حين يقوم به سيكون بالنسبة له الحياة.
– تنوعت كتاباتك بين القصص القصيرة والرواية أيهما الأقرب لك؟ولماذا؟
ليس هناك ما هو أقرب لي من الآخر بينهما، أحب كلاهما، ولكن يحكمني في النهاية الفكرة، فهناك أفكار تصلح لتكون قصة قصيرة من وجهة نظري أكثر مما تصلح لتكون رواية، والعكس، لذلك أحب كلاهما، لكن يمكن أن أقول إن القصة مريحة أكثر، لأنه حين تأتيني فكرة لقصة قصيرة وأكون مشغولة بكتابتها يكفي أن أخصص عدة أيام لأكتب كل يوم فقرة فيها حتى أنجزها وأكون راضية عنها، وبعض القصص تنتهي في جلسة واحدة، لكن الرواية تظل معي وتشغلني لأشهر إن لم يكن سنوات، وتتطلب جهداً ذهنياً وبحثياً وعاطفياً كبيراً وممتداً ومرهقاً.
لكن تحت الجهد تكمن متعة رهيبة في المقابل وهذا ما يجعل الأمور متوازنة نوعاً ما، قصة تنتهي في يوم أو عدة أيام وتجلب متعة سريعة، رواية تنتهي في عدة أشهر يصل بها الشخص إلى مرحلة إنهاك أحياناً، وتجلب متعة ممتدة على مدى كتابتها، فكيف يمكن أن أفضل إحداهما على الآخر!.
– في المجموعة القصصية الموت يريد أن أقبل إعتذاره تنطق الأشياء الأثاث، الملابس حتى الموت يصبح له صوت إلى أي مدى يستغرقك التأمل لخلق تلك الفانتازيا في قصصك؟
حين تأتيني أفكار مثل هذه أكون فعلاً واحدة أخرى، أحياناً أحاول الوصول لتلك الحالة ولا أعرف، فنحن في النهاية بشر لنا تقلباتنا ولا نكون دوماً في نفس الحالة، وحتى أصل إلى مرحلة التركيز والتأمل الذي يفتح لي أبواباً على عوالم أخرى يجب أن اتخلى في المقابل عن أشياء أخرى هامة بالنسبة لي مثل أن أتحدث مع من أحبهم، فأحياناً يتطلب مني الأمر ألا أنخرط في أحاديث مع والدتي حتى لا انفصل عن تدفق الأفكار في ذهني.
وأحياناً يتطلب مني الأمر التخلي عن نظام حياتي اليومي المعتاد والذي استيقظ فيه مبكراً وآخذ قسطاً كافياً من النوم، واضطر للسهر إلى وقت متأخر حتى يكون الجو هادئاً حولي وأستطيع التركيز، وقد أصل إلى مرحلة اتخلى فيها لوقت طويل عن الجلوس مع أهلي لنشاهد شيئاً سوياً لأني احتاج أن أبقى وحدي، وإذا غادرت غرفتي لأجلس معهم فقد تستغرقني أحاديث الحياة العادية وتبعدني عما كنت أفكر به، الأمر ليس سهلاً على الإطلاق، لكني أحاول تحقيق التوازن بمكافأة نفسي، فبعد كل قصة كنت أكتبها كنت أفعل شيئاً أحبه.
هناك أشياء على الجانب الآخر تساعدني على الكتابة عموماً وليس الفنتازيا وحدها، من بينها غسيل الصحون، معظم قصص مجموعة “الموت يريد أن أقبل اعتذاره” جاءتني أفكارها والفقرات المكتوبة بها وأنا أغسل الصحون، وأيضاً وأنا أتمشى، أحب المشي كثيراً، في العادة أحب أن أتمشى مع أصدقائي، لكن وقت الكتابة أحب المشي وحدي، فهذا ينشط خيالي وذهني بشكل كبير.
” سترتدي الأحمر إذن، وبالضرورة لن ترتدي من أسفله “كارينا”، فتلك السنوات التي مرت كانت كفيلة بتحريرها من كل منتجاته، منتج لإخفاء يديها، وآخر للسطو على صدرها، كم تمنت لو كانت ترتدي مثل ملابس الفتيات، اللاتي كن يتتابعن على مكتبه بملابسهن..القصيرة..الضيقة..كاشفة الصدر، وهى جالسة أمامه تفكر بخجل “كيف ينظر إليها بعدهن”، ليته صرفها حينها، ليته ابتعد عنها، كانت ساعتها ستجد عذراً قوياً لهذا، لكنه كان يقيدها به أكثر حين يخبرها بأنها أجمل من عرفهن، فتمسكت بأنوثتها التي نسجها صوته”
– هل واجهت “كارينا” تغلف العقول في تقبُل القارئ للأفكار العارية من القيود، وكيف تعاملتِ معها؟
واجهت طبعاً كثيراً منها ولا زلت أواجه، لكن تعاملي الآن مع ذلك مختلف عن تعاملي فيما مضى وهذا هو الفرق، في البداية كنت أتضايق وآخذ الأمر على محمل شخصي، لكني الآن لا أحمل الأمور أكثر مما تتحمل، فنحن لا نشبه بعضنا على الإطلاق، لكل منا أفكاره التي يحاول الدفاع عنها بكل الطرق، والبعض يختار الهجوم والحط من قيمة من يخالفه في الأفكار، فهذه وسيلته الدفاعية عما يمنحه قيمة لحياته، من حقي أن أتضايق من الهجوم العنيف، لكني في النهاية صرت أحلل الأمور وما ورائها بدلاً من أخذها على محمل شخصي.
“كنت أفعل شيئا رغما عني، أرتدي حجابا لا أشعر به ولا أريده، فأنظر بغيرة إلى الفتيات اللاتي يتمتعن بحرية تصفيف شعورهم كما يشأن، يتركونه حرا، أو يصنعون ضفيرة تشبع رغبة لديهن في العودة إلى الطفولة ولو للحظات، كم كنت أود أن أخلع حجابي كلما رأيت فتاة بشعرها، كم كنت أود أن أكون مكانها. “
رواية على فراش فرويد يقول عنها الكاتب صنع الله إبراهيم رواية جريئة لموهبة ناضجة لا تهاب مقارعة كافة المحظورات في سبيل الصدق.
– إلى أي مدى قد تفسد المحظورات الإبداع الصادق، وهل تري أن المرأة المبدعة في مجتمعنا مُقيده أكثر من الرجل ام أن المحظورات والقيود تطال الجميع دون إستثناء؟
أي محظورات أو قيود تفسد الإبداع، تخيلي لو أنكِ تعدين كعكة، في البداية تفكرين سأعد كعكة عظيمة بها كل شيء، وما أن تبدأي تقولين لنفسك لن أضع شوكولاتة بها لأن أخي لا يحبها، ثم تستثنين الكريمة لأن أختك لا تحبها، ثم تفكرين بوضع كرز فتتذكرين أن صديقتك التي قد تأتي أو لا تأتي لا تحبه فتستبعديه أيضاً، في النهاية تضعين أشياء لا تحبيها محاولة إرضاء الجميع، فلا يرضى أحد ولا أنتِ نفسك، هذا بالضبط ما يحدث حين تكتبين وأنتِ تفكرين في كل القيود التي وضعها من حولك، وفي القيود التي تحدك أنتِ شخصياً، فتكتبين وكأنكِ تجلسين على ست بلاطات لا يمكنكِ أن تمدي يدكِ خارجهم.
طبعاً المرأة المبدعة مُقيدة أكثر من الرجل في مجتمعاتنا، فعلى سبيل المثال إذا كتبت امرأة غير متزوجة عن علاقة بين رجل وامرأة أول سؤال سيأتي على ذهن من حولها كيف عرفتِ ذلك؟ أو هل مرت بذلك؟ لكن الرجل إذا كتب عن نفس الأمر لن يكون مثار شك أو اتهام، وحتى لو شك من حوله في أنه مر بالتجربة فلن يحاسبه أحد، لكن المرأة دائماً في دائرة الاتهام والشك بأنها حتماً مرت بما تكتبه.
لكن لأكون منصفة هناك رجال تُقيدهم محظورات أيضاً، بعضهم يتخوف من الكتابة بصراحة خوفاً على صورته، وهذه قيود أيضاً، فالأمر لا يتعلق بالمجتمع ومحظوراته، بل بالمحظورات التي يضعها كل شخص لنفسه.
“توقعت أن يمسك يدي ويقول لي ألا أخاف، لكنه بدلاً من ذلك سألني وهو ينظر في عيني: وهل تريدين الشعور بالأمان فعلاً؟
– فازت رواية المقاعد الخلفية بجائزة ساويرس الثقافية عام ٢٠١٩، في رأيك هل تضيف الجوائز للمبدع، وماذا يمكن أن تضيف له؟
فزت بهذه الجائزة في وقت كنت أشعر فيه بعدم الثقة فيما أكتب، وبالخوف من الكتابة نفسها. كنت أرغب في العودة للكتابة ثانية ولا أستطيع. فجاءت هذه الجائزة بمثابة دفعة لي لأعود مرة أخرى إلى نفسي والكتابة. الجائزة مثلها مثل أي حافز قد نحتاج إليه من وقت لآخر حتى نستطيع أن نكمل ما بدأناه. أحياناً نحتاج لكلمة من صديق. وأحياناً لرأي من قارىء عابر يرسل لكِ رأيه في قصة نشرتيها ذات مرة أو رواية مضى على نشرها سنوات. الجوائز مهمة مثل كل هذا، خاصة وأن الناس تحب أن تقرأ الأعمال الفائزة، وبالتالي يمكن أن تكون الجائزة تذكيراً للناس بعمل مضى عليه سنوات، مثلما توجهين الضوء نحو شيء فيتوهج من جديد.
– هل واجهت مشكلة في محاولة الربط بين الإبداع الذي تقدميه وبين شخصك؟ وهل كان على مستوى القارئ العادي أم من المثقفين أيضا وكيف تعاملت مع هذا؟
أواجه الربط بين شخصي وبين ما أكتب منذ أن نشرت أول مجموعة لي “أن تكون معلقاً في الهواء”، سواء من جانب القراء أو من جانب من أعرفهم، أو من جانب بعض المثقفين، ولا يشغلني هذا الأمر الآن مثلما كان يشغلني فيما مضى، في النهاية لو فكرت قبل أن أكتب فيمن سيربط ما أكتبه بحياتي ومن سيقول ماذا لن أكتب حرفاً.
– ماهي مشاريع نهلة كرم القادمة؟
لديً فكرة رواية منذ سنوات وأجلتها من أجل كتابة “خدعة الفلامنجو”، والآن بعد أن نُشرت عادت هذه الفكرة تشغلني وأريد أن أبدأ العمل عليها في شهر أكتوبر مع الخريف وبداية عامي الجديد لتكون بداية جديدة أيضاً.
حوار:شيماء أحمد